حاشية في كتاب وليد دقّة
يضجّ كتاب الأسير الفلسطيني الشهيد وليد دقّة "صهر الوعي... أو في إعادة تعريف التعذيب" (مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم – ناشرون، الدوحة، بيروت، 2010) بحزمةٍ من أفكارٍ بشأن الاحتجاز والسجن والاعتقال والتعذيب والقهر وانتهاك الروح والبدن، تستثير رغبةَ بالتداول فيها، سيّما أنها تصدُر عن تجربة أسرٍ قاسيةٍ في السجن الإسرائيلي (منتهاها الموت!)، وعن اطّلاعٍ عريضٍ على دراساتٍ ومطالعاتٍ في القضايا التي يأتي عليها الكتاب الذي تذكّر به هذه المقالة، تحت وقع نبأ استشهاد كاتبه، الفدائي النبيل، عن 38 عاماً في الأسر، أول من أمس الأحد، بسبب إهمالٍ طبّيٍّ عومل به، في ما يشبه جريمة إعدامٍ مشهودة. ولئن يُحسَب هذا الكتاب، على قلّة صفحاته، وعلى ما فيه من مزاوجة بين التأمليّ الخاص والفكري البعيد، بين النظري المجرّد والتحليلي المباشر، مرافعة ثقافية، في الأساس، بشأن موضوعة الانتهاك الذي يُحدثه الحبس، إلا أنه، في الوقت نفسه، مساهمةٌ نوعيةٌ، أظنّها نادرة المثال، في إشهار الأسير الفلسطيني مقاربةً خاصّة في هذه الموضوعة، وتعييناً في سجون الاحتلال التي أضاء دقّة على تمايزاتها وخصوصيّاتها.
سطورٌ معدودةٌ، عارضة، تمرّ في الكتاب، عن نصوصٍ كتبها أصحابُها عن سجونٍ أخرى، سطورٌ أشبه بالحاشية العابرة، في سياق التأشير إلى شذوذ القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية عن حالات قمع وتعذيب أخرى، سطورٌ لا تدلّ فقط على سعةٍ في معرفة الأسير الشهيد، المثقف، وإنما أيضاً على نباهةٍ في التقاط الجوهريّ في الظواهر والقضايا والأسئلة. والإحالة هنا على ما يذكُره عن المستهدَف لدى المحتل الإسرائيلي في الأسير الفلسطيني، وهو "الروح والعقل". يكتُب "ليس هناك حرمانٌ فعليٌّ من الطعام أو الدواء، ولن تجدوا من هم محرومون من الشمس ومدفونون تحت الأرض، لا يكبّل الأسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة لكتلٍ حديدية طوال النهار". وقد يظنّ قارئ متعجّل هنا أن وليد دقّة "يُفاضل" بين سجون المحتل الإسرائيلي وسجون أخرى، فيخلُص إلى أن تلك أفضل من هذه، ولكن الأمر ليس في هذا الوارد أبداً.
يكتُب وليد دقّة "لا نواجه هنا ما واجهََه ووصفه فوتشيك في كتابه "تحت أعواد المشانق"، وليس الحديث هنا عن شيءٍ يشبه سجن تازمامرت في رواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بنجلّون. ولن تجدوا وصفاً يشبه وصف مليكة أوفقير للسجون المغربية. نحن هنا لسنا في سجن أبو زعبل، ولا حتى في أبو غريب أو غوانتانمو، من حيث شروط الحياة، ففي كل هذه السجون تعرف معذّبك وشكل التعذيب وأدواته المستخدمة، وأنت تملك يقيناً على شكل تعذيبٍ حسّي مباشر، لكنك في السجون الإسرائيلية تواجه تعذيباً أشدَّ وطأة "بحضاريّته"، يحوّل حواسّك وعقلك إلى أدوات تعذيبٍ يومي، فيأتيك هادئاً متسلّلاً لا يستخدم في الغالب هراوة ولا يقيم ضجّة. إنه يعيش معك رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية".
ليس اعتباطاً أن يرد الاقتباسُ غير قصيرٍ هنا، فالمؤدّى منه أن وليد دقّة يأتي على تجارب بالغة الفظاعة في السجون، كما دلّت عليها الكتُب التي ذكرها: يوميات التشيكي السلوفاكي، يوليوس فوتشيك (1901 – 1950) عن سجنه في براغ، وهو الذي ناهض النازيّة والفاشية، وعُدّت يوميّاته (تُرجمت إلى لغاتٍ عديدة، منها العربية)، ورواية بنجلّون التي استوحاها من أحاديث طويلة أفضى بها إليه سجين تازمامرت في المغرب، عزيز بنين، وتداخل فيها بعضُ المتخيّل، وحافظت على جنسها رواية (لم يرضَ عنها بنين واشتدّت خلافاتٌ حادّةٌ بينهما)، وكذا ما كتبته المغربية مليكة أوفقير (ابنة الجنرال محمّد أوفقير) في كتابها "الغريبة"، والتي ذاقت، مع والدتها (لها كتاب "السجينة") وإخوتها، آلاماً مهولة في سجن مغربي بالغ الفظاعة سنواتٍ. يحيل وليد دقّة على هذه النصوص، بإيجازٍ شديد، لا ليهوّن من فظاعة سجون الاحتلال أمام ذلك السجن في تشيكوسلوفاكيا وذينك السجنيْن في المغرب، وإنما للتشريح (ما أمكن) في استهداف المحتلّ الإسرائيلي روح الأسير الفلسطيني وعقله.
تتّسق هذه الانتباهة، العارضة جداً، مع ما كتَبَ عنه عزمي بشارة في مقدّمته الكتاب الرائق، ومنه إن "للكتابة عن السجون حساسية لا يدركها إلا من عاشها، فالأسرى منشغلون بأدقّ التفاصيل، تستحوذ عليهم أمورٌ تبدو من خارج السجن قليلة الأهمية، لكنها تبدو مصيرية للأسير". ... ومن كثيرٍ مدهشٍ، محزنٍ بالتأكيد، أن يرى سجين جلبوع نفسَه في حال أقلّ فداحةً مما كتب عنه الطاهر بنجلّون في روايةٍ (نابهة بحسب كاتب هذه المقالة)، غير أن الذي في الزنازين الإسرائيلية أشدّ هولاً على "العقل والروح".