حتى النموّ مقابل الاستبداد لم يتحقّق في تونس
جاءت النتائج التي نشرها في الأسبوع الماضي المعهد الوطني (التونسي) للإحصاء مخيّبة للجميع، بل مفزعة، إذ لم تبلغ نسبة النمو في السنة الماضية سوى 0,4%، مع تراجع في نموّ جلّ القطاعات تقريباً، باستثناء قطاع السياحة. أما نسبة البطالة، فقد ارتفعت في الثلاثي الأخير من السنة الماضية، إذ بلغت ما يناهز 16,4%، إذ انضاف إلى عدد العاطلين (650 ألفاً) ما يناهز 30 ألف عاطل جديد.
تدخل تونس، بهذا المناخ السلبي، المنعرج الأخير من العهدة الرئاسية التي تختم خمس سنوات قريباً، عرفت في أثنائها منعطفاً خطيراً أنهى تجربة الانتقال الديمقراطي، تحديداً منذ 25 يوليو/ تموز 2021. ثم ظلت ردود الأفعال مختلفة، إلا أن الشعب، في كل الحالات، لم يدافع عن ديمقراطيّته، وظلّ يشاهد ما يجري بشيءٍ من اللامبالاة والتشفّي أحياناً. تحوّلت تدريجياً كل تلك المشاعر، لتصبح مشوبة بالخوف والحذر. فالشعب يرى جلّ القيادات السياسية تُقاد إلى السجون، علاوة على الإعلاميين والقضاة والمحامين. ويُسوَّغ ذلك من خلال تلاعب إعلامي كبير انخرط فيه الجميع، يصوّر هذه الإجراءات جزءاً من حركة تحرّر وطني تخوضها البلاد ضد الفاسدين والخونة.
أيّدت فئات واسعة كل تلك الاجراءات التعسّفية على أمل أن ترى رخاءً اقتصادياً يلطّف عنها كابوس معاناتها اليومية، حتى إن نخباً أيدت هذا المسار الذي يصفه مؤيدو الرئيس قيس سعيّد بأنه تصحيحي، وضع حدّاً لانحرافات تجربة الانتقال الديموقراطي. يقدّم بعضهم نماذج "ناجحة" من تجارب تنموية تحقّقت في ظل انغلاق سياسي. يستشهد عديدون بتجارب حدثت، سواء في التاريخ الحديث أو المعاصر. تحت هذه الأنظمة المستبدّة، فُرض الانضباط والتقشّف والتعويل على الذات، حتى تحقّقت نسب نمو مرتفعة، لا شك أن الدولة لعبت قاطرة الاستثمار مع طبقة من المشاريعيين المرتبطين بالدولة، وعديد من نمور الاقتصاد الآسيوي حققت تجاربها التنموية المختلفة وفق هذا النموذج.
قاد النظام التونسي معركته الحقيقية والباطلة مع كل من رأى فيهم مُناوئين يستحقون "التطهير"
كان الخطاب الشعبوي للرئيس سعيّد لا يبتعد ضمنيّاً عن مثل هذه التجارب: يؤكّد تمسّكه بالقطاع العمومي والمؤسّسات العمومية التي تشكو من الإفلاس وسوء الحوكمة وافتقاد قدراتها التنافسية، إلخ، ولكنه يعتبر أن التفويت فيها لبيعها للقطاع الخاصّ خط أحمر، لأنها من أموال الشعب التونسي... ويؤكّد أيضاً أن البلاد لا تحتاج إلى صندوق النقد الدولي. يقدّم أنصار سعيّد هذا الخطاب باعتباره تمرّداً على "النظام العالمي"، ولكنهم يخفون أن البلاد، وإن استطاعت أن تفي بالتزاماتها تجاه دائنيها، وأن تستغني مؤقّتاً عن الإصلاحات التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي، فإنها واصلت، بشكلٍ غير مسبوقٍ أيضاً، الإقراض الخارجي من مؤسّسات دولية، بنسب غير مسبوقة.
ومع ذلك، ظلّ الجميع ينتظر أن تحدُث المعجزة الاقتصادية التونسية، في مناخٍ من تراجع الحرّيات غير مسبوق خلال سنوات سعيّد. وكانت جائحة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية شماعتين يعلّق عليهما النظام وأنصاره الركود الاقتصادي الحاصل طبعا إلى جانب الفاسدين والمحتكرين والخونة ... قاد النظام معركته الحقيقية والباطلة مع كل من رأى فيهم مُناوئين يستحقون "التطهير".
أحدثت "الشركات الأهلية" مجموعاتُ أنصار سعيّد عادة، وهي "تعاضديات/ مؤسسات اقتصادية صغرى"، وفتحت لها البنوك تحت ضغوط سياسية كبيرة لم تخلُ من التهديد أبواب تمويلها، كما يجري حالياً تنقيح القوانين من أجل تمكينهم من "تأجير" الأراضي الدولية لها.
يأمل النظام في تونس أن يرى بعض نتائج المعجزة الاقتصادية، ولو الأولية، تتحقّق قبل الانتخابات التي ستجري من دون أن يكون لها أي رهان
يبحث النظام عن إيجاد قاعدة اقتصادية جديدة له، فضلاً عن فرض قانون الصلح الجزائي الذي يُجبر رجال المال المورّطين في قضايا فساد على المساهمة العينية المباشرة في إحداث مشاريع تنموية في المناطق الـ"محرومة". والحال أن محامين وخبراء عديدين يرون فيها إجراءات متعسّفة هي أقرب إلى المحاكمات الخاصة، فقد جرى لأول مرة إقحام مجلس الأمن القومي في مسائل اقتصادية وقضائية ليست من مشمولاته في الأنظمة الديمقراطية. ومن أجل احتواء الوضع الاقتصادي الهشّ، جرى، خلال نهاية الأسبوع الماضي أيضاً، تعيين محافظ للبنك المركزي التونسي خلفاً لمروان العباسي الذي عُرف بدفاعه عن استقلالية البنك الوطني. يجري ذلك كله في ظل تشريعات جارية تضع حدّاً لاستقلالية البنك المركزي عن الحكومة، وهو الذي أعلن، قبل أسابيع، في بيانٍ، أنه أقرض الدولة ما يناهز 2,3 مليار دولار دُفعت لخزينة الدولة لتسديد ديون خارجية، في خطوة رآها خبراء عديدون غير مسبوقة من التدخّل السياسي المباشر في الشأن المالي، ما ستكون له تداعيات كارثية سنلاحظها في الأشهر القليلة المقبلة، تتعلق بالتضخّم وانكماش الاستثمار.
يصرّ النظام على إنجاز معجزة اقتصادية للتونسيين، وهو يأمل أن يرى بعض نتائجها، ولو الأولية، تتحقّق قبل الانتخابات التي ستجري من دون أن يكون لها أي رهان سياسي أو انتخابي، ومع ذلك ستكون بعض النتائج الإيجابية دعاية مناسبة لولايات رئاسية قادمة.