حدّ الرّجم في ورطة
هل يمكن لفكرة أو رأي متوارث أن يتحوّل إلى شرع ودين وثابت ومعلوم بالضرورة، لا يقبل النقاش أو الاختلاف أو البحث أو المراجعة؟ هل يمكن لـ "حكم بشري"، أو تدبير سياسي، أو رأي تاريخي نسبي زمني، أن يتحوّل إلى تشريع إلهي؟ هل يمكن لـ "ادّعاء" لا يستند إلى دليل حقيقي من القرآن أو السنة أن يجد طريقا ممهدا لأن يكون قرآنيًا وسنيا وأصوليا وراسخا ومستقرّا، من دون وجه حق، أو نقل، أو عقل، أو مصلحة، أو مقصد؟ كتاب "لا رجم في الإسلام" للباحث عصام تليمة (دار جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2021) والنقاشات والسجالات و"الخناقات" التي دارت حوله منذ صدوره يقول ذلك بوضوح. يتبنّى الباحث الرأي القائل إن الرّجم ليس حدّا شرعيا، وهو الرأي الأضعف، والأقل رجحانا، من حيث عدد الأنصار، ورافعو الأيدي، فالرأي الأكثر "استقرارا" عبر التاريخ هو "الرّجم"، وهو الذي يرفض أصحابه بشدة مجرّد مناقشته.
يتناول عصام تليمة، في مجلده، الذي يتجاوز 400 صفحة، كل ما ورد عن الرّجم من نصوص "متخيلة"، وآراء فقهية، ويشتبك معها، وفق قواعد المنهج الذي أنتجها نفسه، يخوض معركته من داخل منظومة الفقه الأصولي التقليدي الكلاسيكي القديم، ليس من باب إنصاف الخصم، ولكن انحيازا واضحا لهذه المنظومة، كما يبدو من كتابات الشيخ وأفكاره ومشاركاته بالكتابة أو الظهور الإعلامي اليومي، بل ومن كتاب "لا رجم في الإسلام" نفسه، ومن مقدمته إلى الملاحق "المهمة"، يتناول الشيخ خرافة الرّجم في مراحلها المختلفة، كيف تشكّلت، وكيف وجدت من يصدّقها، وكيف جرى شرعنتها، وفقهنتها، افتئاتا على الحقيقة، وكيف استقرّت واستمرّت، ليصبح الخطأ الفادح حقيقة، ويصبح التصحيح خطأ، بل جريمة؟!
من هنا، تبدو أهمية كتاب عصام تليمة عن الرّجم، فهو ليس مرجعا في المسألة، بكل ما ورد فيها سلبا وإيجابا فحسب، وليس تفنيدا لآراء "حزب الرّجم" فحسب، وليس تصحيحا لخطأ تاريخي متوارث فحسب، بل هو طريقة في التفكير، والحفر، والتنقيب، تثبت أن كثيرا من الآراء الأصولية المستقرة لا يمكنها الصمود أمام المعايير العلمية والنقدية للمنهج الذي أنتجها، وأن تناولها بشكل جاد، من دون الخوف من سلطة القدامة، والشيوع، والتكرار، ونفض تراب الزمان عنها، يضعها، هي وأصحابها، في أحجامهم الطبيعية.
لا أحد يتبنّى رأيك، وحدك من يقول بذلك، وحدك من يفهم ذلك، وحدك من يدّعي ذلك، ثمّة إجماع، والإجماع تشريع، كما أنه سلطة، من أنت لتقول لفلان لا، من أنت لتقول للجميع لا؟! تتكرّر هذه "المشاغبات" بدورها، في النقاشات حول الرّجم وغيره. وعلى الرغم من تهافت المقولة، الظاهر، واستحالة انعقاد الإجماع، على أي شيء، فهو ضد طبيعة البشر، فضلا عن طبيعة النصوص الدينية التي عاشت واستمرّت وسوف تظل، بإمكاناتها التأويلية، إلا أن ثمّة من يصدّق، خصوصا إذا حضر البعد الدرامي، وكان الاختلاف، ليس وحيدا فحسب، وليس شاذّا فحسب، إنما هو جزء من مؤامرة كبرى، فالاختلاف ليس علميا، ولا فقهيا، ولا مسبوقا، إنما هو "خطّة" أعداء الإسلام للنّيل منه. وهنا تتجلى إبداعات التديّن الشعبوي، فتحضر أميركا وإسرائيل وأجهزة مخابراتهما، ومدارس الاستشراق كلها، عاطلا في باطل، وتقارير مراكز الأبحاث الغربية، وكل ما يسمح به السياق، أو لا يسمح، ووضعه في جمل غير مفيدة، لكنها برّاقة، للهروب من الحوار والمواجهة، والإجهاز على الخصم، من دون دخول المعركة أصلا.
يتميز كتاب "لا رجم في الإسلام" بـ " ملحق أبحاث"، استبعد فيه الشيخ أكثر مما أورد من أسماء علماء وباحثين. وتعمّد، في ذكاء، ألا يأتي سوى بآراء العمائم "المعتمدة"، والتي يصعُب محاصرتها بهذا الخطاب "الافترائي" والتي يقول أصحابها، بوضوح، إنه لا رجم في الإسلام، ويدللون على ذلك، ولا يجدون من يناقشهم، بشكل حقيقي، في أدلتهم، وينحصر النقاش حول الدوافع والنيات والمؤامرات، فضلا عن التشويه الذي نال أغلبهم، في زمنه وسياقه، مع اختلاف الدرجة، حسب الأهمية والتأثير، وحجم الاحتقان الديني.