حرائق الغابات ونيران الفتنة في الجزائر
تعيش الجزائر، في هذه الأيام، حريقين كبيرين، لم يسبق لها أن عاشتهما. الأول ما يعرفه الجميع عن حرائق هائلةٍ لغابات وسط البلاد وشرقها، خصوصاً في منطقة تيزي وزو القبائلية، وخلّفت خسائر ضخمةً في الثروة الغابية الوطنية، وحوالى 70 قتيلاً بين مدنيين وعسكريين، واتسمت بتضامن شعبي منقطع النظير بين مناطق الجزائر وأعراقها جميعاً، وبالنجدة الكبيرة التي نهضت بها المناطق العربية والشاوية حيال المنطقة الأكثر تضرّراً في القبائل التي تقطنها أغلبية من الأمازيغ. أما الثاني، وهو الأخطر بكل المقاييس، والذي هدّد، بشكل خطير، بنسف كل تلك الصور الحضارية للتلاحم بين مختلف شرائح المجتمع الجزائري، فقد كان حريقاً وحشياً غير إنساني بالمرّة، أضرمت نيرانه مجموعاتٌ متطرّفة يعتقد أنها "انفصالية" أمازيغية في جسد شاب "عربي" من منطقة خميس مليانة غربيّ الجزائر، بشبهة حرقه الغابات، بينما كان المغدور فناناً ورسّاماً جاء متطوّعاً ليساعد أهل تيزي وزو في إخماد النيران وتقديم المساعدات لأهلها.
نشب الحريقان في جسد واحد، ولكن باتجاهين مختلفين تماماً، فعلى الرغم من قساوة الحريق الأول الذي مسّ الغابات، وعلى الرغم مما خلفته من خسائر مادية وبشرية كبيرة، إلا أنه كان رحيماً بأهل الجزائر إلى أبعد الحدود، لأنه شكّل فرصة تاريخية لتلاحم المكونات الوطنية وتعزيز لحمتها، ليس فقط بتوالي قوافل الإغاثة التي تقاطرت على منطقة تيزي وزو والقبائل كلها، التي تريد لها قوى محلية وأجنبية الانفصال عن الجسد الجزائري الواحد، وتسعى إلى ذلك سعياً حثيثاً بمختلف أشكال المؤامرات والدسائس، وإنما بعد أن امتزجت مرة أخرى دماء الجنود الجزائريين، من مختلف أنحاء البلاد، مع دماء الضحايا المدنيين (الأمازيغ)، لتردّ بالدم، لا بالكلام والمهاترات، على دعاة الفتنة. إلا أن الحريق الآخر الذي جاء في اتجاه معاكس تماماً، عمل فيه المجرمون القتلة على التنكيل بجثة المغدور الفنان جمال بن إسماعيل بعد حرقها، وتصويرها لتشكل صدمةً شاملة، بغرض وقف تلاحم الجزائريين العرب مع إخوانهم الأمازيغ، وإشعال نار فتنةٍ عرقيةٍ أخطر من نيران الغابات كلها. ومن هنا جاءت نظرية "المؤامرة" التي اعتُمدت رسمياً وشعبياً في الجزائر، لتفسير كل ما يجري.
نظرية المؤامرة تلقى رواجاً ساحراً في الجزائر، على الرغم من أن حرائق الغابات مسّت دولاً كثيرة، وعلى الرغم من التقارير العالمية عن حالة المناخ
بالنسبة إلى السلطات الجزائرية، بداية من وزير الداخلية والوزير الأول إلى غاية الرئيس عبد المجيد تبون الذي ألقى خطاباً للأمة، بعد تفاقم الأوضاع واستشراء الحريقين في 12 أغسطس/ آب الجاري، فإن ما يجري هذه الأيام في بلاده لا يخرُج عن دائرة سيناريو المؤامرة، ذلك أن أغلب الحرائق التي شهدتها البلاد بحسبه هي بفعل "أيادٍ إجرامية" وأن مصالح الأمن قد ألقت القبض على عشرات المشتبه في ضلوعهم في إضرام الحرائق، محذّراً مما أسماها "الجراثيم التي تحاول الاندساس بين الشعب الواحد" بغرض التفريق بين المناطق.
والحقيقة أن نظرية المؤامرة هذه تلقى رواجاً ساحراً في الجزائر، على الرغم من أن حرائق الغابات مسّت دولاً كثيرة، وعلى الرغم من التقارير العالمية عن حالة المناخ، ذلك أن تسلسل الأحداث يميل بشدة إلى الخروج من فرضية "غضب الطبيعة" وفرضية الفعل الإجرامي "المنعزل" إلى فرضية الفعل الاجرامي المنظّم، ويستدلّ أنصار هذه النظرية بعمليات الحرق الشامل للغابات في الجزائر، التي تعود إلى العام الماضي، عقب التحولات السياسية التي عرفتها البلاد، خصوصاً عقب انتخاب الرئيس تبون في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، أين شهدت البلاد حرائق في مختلف الولايات، قبل أن تتسع بشكل غير مسبوق في شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز الماضيين، حين تجاوزت حينها خمسمائة حريق أتت على آلاف الهكتارات، وكان لولاية خنشلة في الأوراس نصيب الأسد بـ85% من تلك الحرائق. غير أن الحرائق التي ضربت، أخيراً، بقوة أكبر، ولاية تيزي وزو بالتحديد، باعتبارها عاصمة لمنطقة القبائل التي يثار حولها جدل واسع، زادت من حدّته المذكرة المغربية في الأمم المتحدة في 13 و14 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، حول ما يسمّى تقرير مصير الشعب القبائلي، وبالنظر إلى الحجم الكارثي غير المسبوق من حيث الامتداد الجغرافي، وكذا الخسائر الضخمة المادية والبشرية التي خلفتها، جعلت منها حرائق استثنائية بكل المقاييس، الأمر الذي جعل من المقاربة الجزائرية بهذا الصدد تتواءم بشكل كبير مع المقاربة التركية، في أعقاب الحرائق الكبيرة أيضاً التي عرفتها تركيا، ودفعت هذه الأخيرة على لسان الرئيس أردوغان نفسه إلى اتهام حزب العمال الكردستاني، وخلفه قوى أجنبية مموّلة له، بالوقوف وراء تلك الحرائق.
يقول الجزائريون إن بلادهم مستهدفة، ويردّد الجيش الجزائري كثيراً عبر مجلته الرسمية وتصريحات قائد الأركان، خطاب المؤامرات والدسائس التي يجب التصدّي لها
في الجزائر، الاتهامات موجّهة، بشكل صريح، إلى الحركة القبائلية من أجل استقلال القبائل (الماك) المصنفة "إرهابية"، فقد ذكر ذلك الرئيس تبون، ودلل الوزير الأول، أيمن بن عبد الرحمن، على ذلك، بقوله إن "أماكن اندلاع هذه الحرائق كانت مختارة بدقّة، وفي مناطق فيها تضاريس وعرة، تسمح بإحداث أكبر قدر من الخسائر"... وهي تصريحاتٌ تذكّر بأخرى مشابهة، للوزير الأول السابق، عبد العزيز جراد، عقب حرائق خنشلة، أن بعض الحرائق مدبّرة ومتعمدة، مشيراً إلى أطرافٍ تقف وراء تلك الحرائق تستهدف "إثارة الفتنة". كما تذكّر بتصريحات مشابهة لوزير الفلاحة، عبد الحميد حمداني، أن التقرير الذي أعدته وكالة الفضاء الجزائرية يوضح بجلاء انطلاق حرائق الغابات "كلها من دون استثناء من حوافّ وأطراف الغابات". وهنا تذهب التحليلات والتخمينات والاتهامات إلى ما هو أبعد من مجرد حركة انفصالية محلية، إلى البحث عمن يقف وراءها من الخارج، من أجهزة معادية بكاملها، تستهدف ضرب الجزائر، أرضاً وشعباً وجيشاً ووحدة وطنية، بسبب مواقفها الثابتة، خصوصاً من قضية الصراع الإسرائيلي العربي، ورفضها التطبيع مع الصهاينة.
يقول الجزائريون إن بلادهم مستهدفة، ويردّد الجيش الجزائري كثيراً عبر مجلته الرسمية وتصريحات قائد الأركان، خطاب المؤامرات والدسائس التي يجب التصدّي لها، ويؤكّد كثيرون، على غرار النائب العام في مجلس قضاء تيزي وزو، أن الحرائق التي اجتاحت العديد من الولايات اندلعت بعد تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون، في 8 أغسطس، ووجّه فيه كلامه أولاً للفاسدين من حكم بوتفليقة وتشديد عقوبة حرق الغابات، وثانياً رفضه دعوة الملك محمد السادس إلى فتح الحدود، في ظل عدم رد الرباط على مطالبات الجزائر بتقديم توضيحات بشأن تصريحات ممثل المغرب في الأمم المتحدة، التي وصفها بـ"الخطيرة جداً"، عن "تقرير مصير الشعب القبائلي"، ما يعني أنه إذا كانت تركيا تتجاوز قضية حزب العمال الكردستاني إلى اتهام اليونان، فإن الجزائر تتجاوز بدورها، على ما يبدو، قضية حركة "الماك" الإرهابية وحدود التلميحات ناحية المغرب إلى الإشارة بكل وضوح ناحية إسرائيل.
تثبيت عزلة منطقة القبائل عن باقي الجزائر، وفرض استقلالها، الحل الوحيد لتركيع الجزائر وضربها من الداخل، بعدما فشلت المؤامرات والمناورات من الخارج
ويزيد في ترسيخ نظرية المؤامرة هذه بشكل كبير، إدراك حيثيات الكارثة الانسانية التي ألمّت بالفنان الشهيد جمال بن إسماعيل، فالطريقة الوحشية التي لم يسبق للجزائريين أن رأوها حتى في زمن العشرية السوداء سنوات التسعينيات، وما سمعوه عن مجازر الرمكة وبن طلحة وبني مسوس وغيرها، حين تجمّعت حول الضحية جموع من الكلاب البشرية المشرّدة تدّعي انتماءها إلى الأمازيغ، لتقوم بطقوس الحرق والتنكيل بجثة المغدور تحت شعارات عنصرية "العرب حيوانات" وتصوير ذلك كله، كانت تستهدف إحداث حريقٍ من نوع آخر لم تقدر عليه الأيادي التي امتدّت إلى الأشجار، بغرض تثبيت عزلة منطقة القبائل عن باقي الجزائر، وفرض استقلالها، وتقسيم الجزائر على اعتبار أن ذلك هو الحل الوحيد لتركيع الجزائر وضربها من الداخل، بعدما فشلت كل المؤامرات والمناورات من الخارج.
لكن، هل كل هذا الكلام الذي قد يراه بعضهم "مبالغاً" فيه عن "المؤامرة" صحيح؟ الأمر موكل إلى مزيد من التحقيقات التي شرعت فيها قوى الأمن والاستخبارات، سواء تعلق بحرائق الغابات أو لهيب الفتنة العرقية التي أرادها شياطين الإنس أن تستعر، غير أن الله أطفأها إكراماً لأرض الشهداء، فقد أدرك الشعب المفجوع في أبنائه الذين ماتوا حرقاً بفعل الطبيعة، أو المفجوع في ابنه الذي مات غدراً بفعل أعداء الطبيعة والحياة، أن الأعداء يتربّصون في المنعرج القريب للانقضاض على وطنهم الذي سيبقى جميلاً بنقاوة الإنسان فيه، موحداً بعقيدته وتاريخه، وخارقاً بطبيعته الخلابة، على الرغم من السواد العابر وحجم الغيوم التي تتلبّد في السماء.