معضلة الوساطة بين الجزائر والمغرب
لا يبدو أن عودة الدفء إلى العلاقات الجزائرية المغربية ستكون قريبة في الظروف الحالية، فجهود الوساطة التي تحاول دول عربية، خليجية تحديدا، وحتى أوروبية، القيام بها على استحياء، تصطدم، منذ إعلان الجزائر في 4 أغسطس/ آب الماضي، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط، بفيتو جزائري صلب، تشير أبجدياته البسيطة، كما عبّر عنه وزير خارجية الجزائر، رمطان لعمامرة، خلال لقاءاته التشاورية التي سبقت اجتماع وزراء خارجية العرب أخيرا إلى رفض جزائري صارم وحاد، وإلى أن "قرار قطع العلاقات الدبلوماسية ليس قابلا للنقاش أو التداول، باعتباره قرارا سياديا ونهائيا مؤسّسا لا رجعة فيه".
للموقف الجزائري الصلب هذا مبرّراته الموضوعية، التي أوردها الوزير لعمامرة مفصلةً في معرض تبرير قطع العلاقات، فتبنّي المخزن (القصر والسلطة العليا) المغربي فكرة انفصال منطقة القبائل تطوّر "خطير جدا" كما وصفه الرئيس عبد المجيد تبّون، كما أن تحويل أرض المغرب العربية إلى منصّة للمسؤولين الإسرائيليين للتهجّم على الجزائر، كما فعل وزير خارجية الكيان، يائير ليبيد، في الدار البيضاء في 13 أغسطس/ آب الماضي، ليست أمورا هامشية يمكن التغاضي عنها. إلا أن إصرار الجزائر على غلق أبواب الوساطات مع ذلك بهذا الشكل يحتاج إلى وقفة تأمل، على اعتبار أن مستقبل المنطقة المغاربية وشعوبها يتوقف على مدى حلحلة الخلافات بين المغرب والجزائر، مهما كانت تعقيداتها، وعدم تركها تتعاظم أكثر، لأن وصول العلاقات بين البلدين إلى نقطة اللارجوع ليس في مصلحة أحد. لهذا بات الحديث عن الوساطات، على الرغم من الرفض الجزائري الحازم، يفرض نفسه، بشكل أو بآخر، ممزوجا بأحاديث الكواليس والإشاعات، وربما حتى بالبروباغندا من هنا وهناك، الأمر الذي فرض، قبل أيام، على لعمامرة في أثناء انعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب أخيرا، نفي أي إمكانية للوساطة في الموضوع المغربي، على اعتبار كما قال أن "القرار السيادي والصارم للجزائر جاء بالنظر إلى الانتهاكات الخطيرة والمستمرّة من جانب المغرب للالتزامات الجوهرية التي تنظم العلاقات بين البلدين".
لم يكن ذلك كافيا على ما يبدو، لإسكات كل الأصوات والجهات التي تعيد، بين الفينة والأخرى، طرح ملف الوساطة، الأمر الذي دفع مبعوث الجزائر الخاص إلى دول المغرب العربي والصحراء الغربية، عمار بلاني، إلى التدخل من جديد الثلاثاء الماضي، 14 سبتمبر/ أيلول، للردّ على مزاعم وجود وساطة إماراتية لتطبيع العلاقة مع المغرب، معتبرا أنها مجرّد إشاعات تتداولها مواقع مغربية، قبل أن يضيف أن ذلك يندرج ضمن ما سمّاه "مخطّط الحرب الإلكترونية الشرسة التي يشنها ضدنا جار معادٍ وعدائي".
ولعل ما أثار حفيظة الجانب الجزائري في موضوع الوساطة الإماراتية، إلى درجة خروج مسؤول كبير لنفيها، أن التسريبات حيالها "تدّعي" أن الجزائر هي التي طلبت من الإمارات التوسط لديها مع الرباط لعودة العلاقات، وأنها لا تشترط الا شرطا واحدا، تراجع الرباط عن دعم فكرة استقلال القبائل، وهو ادّعاء لا يمكن التسليم به، لأن حدّة الخلافات الجزائرية المغربية، الممتدة إلى أكثر من 60 سنة، أعمق بكثير من هذه الحادثة، مثل ملفات الصحراء الغربية، والحدود، والتطبيع، والتجسس والصراع على النفوذ وغيرها، وإن كانت قضية انفصال القبائل هي القطرة التي أفاضت الكأس.
الدول العربية ودول الجوار والدول الصديقة لا يمكنها أن تبقى تتفرج حيال التدهور الخطير في العلاقات بين أكبر قوتين في منطقة المغرب العربي
ومع ذلك، لا دخان من دون نار، فالدول العربية ودول الجوار والدول الصديقة لا يمكنها أن تبقى تتفرج حيال هذا الكم من التدهور الخطير في العلاقات بين أكبر قوتين في منطقة المغرب العربي، فالعالم يتوجّس، ويدرك أن أي اشتعال للمنطقة معناه كارثةً بكل المقاييس، ليس فقط على شعوب الجناح الغربي من العالم العربي وحدها، وإنما حتى على أوروبا والعالم كله، لأن الهجرة السورية التي حدثت تصبح، لا قدّر الله، في حال أي انفلاتٍ في المنطقة المغاربية، مجرّد بروفا صغيرة، أمام السيل البشري الجارف الذي يجد نفسه مضطرّا حينها للانتقال إلى الضفة الأخرى.
ويذهب بعضهم إلى منح الكويت قدرة ثابتة بفضل دبلوماسيتها الهادئة، للعب دور بناء وإيجابي في موضوع الوساطة أفضل من الإمارات بشكل كبير، خصوصا أن الكويت تمتلك علاقات جيدة مع الجزائر والرباط، بعكس الإمارات التي سقط سهمها في الجزائر منذ فتحها قنصلية لها في منطقة العيون بالصحراء الغربية، كما أن الكويت التي كان لها دور فعّال في حل الأزمة الخليجية، على الرغم من تعقيداتها، أظهرت موقفا نبيلا مع الجزائر في أزمة حرائق الغابات الأخيرة، حيث أرسلت مساعداتٍ معتبرة، كان لها الأثر الطيب في نفوس الجزائريين جميعا.
كما تتطلع الشقيقة بحبّ إلى القيام بشيء مفيد في حل هذه المشكلة الكبيرة، حيث سجل اللقاء السريع مباشرة بعد قطع العلاقات الجزائرية المغربية، بين وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري، سلطان بن سعد المريخي، بالسفير الجزائري في الدوحة، مصطفى بوطورة، خصوصا أن مواقف كل من الجزائر والرباط حيال الأزمة الخليجية وحصار قطر سيسجلها التاريخ من أفضل المواقف العربية الرافضة منطق الحصار والاستقواء. وبالتالي، قد ترى الدوحة في محاولة حلحلة المشكلة بين الجزائر والمغرب واجبا أخلاقيا قبل أي شيء آخر.
ما تسرّب عن محاولة فرنسية لترتيب مكالمة هاتفية بين الرئيس تبون والملك محمد السادس، يشير إلى فشلٍ كبيرٍ في إمساك خيوط اللعبة المعقدة
ومع ذلك، يبدو الدور السعودي، في أي وساطة ممكنة بهذا الخصوص، صاحب الحظ الأوفر، لاعتباراتٍ عديدة، منها الاحترام الكبير الذي تكنّه الجزائر منذ استقلالها للسعودية، وقد تجسّد حتى بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في يناير/ كانون الثاني 2020، حيث كانت أولى زياراته الخارجية إلى السعودية، بالإضافة إلى موقع الرياض المتقدّم ضمن منظومة الحكم المغربية. كما كان للسعودية الفضل دون غيرها، في إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الرباط والجزائر العام 1988، وفي إعادة فتح الحدود بعد قطعها عام 1976 على خلفية الصراع في الصحراء الغربية، فقد لعبت الرياض دورا كبيرا في جمع الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، الأمر الذي سمح بإعادة بعث حلم المغرب العربي حينها وتحريك هياكله، قبل أن يتم تدمير كل شيء بعد تفجيرات مراكش 1994. ولعل في محتوى زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، الجزائر، المهمة، يوم 14 سبتمبر/ أيلول الحالي، والرسالة التي حملها من الملك سلمان بن عبد العزيز للرئيس تبّون، ما يدعو إلى الأمل، ويفتح المجال على الأقل، في خطوة أولى، إلى إقناع الطرفين قبل أي شيء آخر، بوقف الحملات الإعلامية العدائية المتبادلة.
أما ما يبذل من جهود أخرى بالموازاة، فلا يبدو أنها تبرح دائرة حسن النيات، ذلك أن تونس، بحكم موقعها، يمكنها أن تلعب دورا إيجابيا في تخفيف حدّة التوتر، لكن أوضاعها الداخلية الضبابية لا تساعد على ذلك في الوقت الراهن، كما يتطلّع الإخوة الموريتانيون إلى فعل شيء، تفاديا لتطورات غير محسوبة، ستؤثر بشكل مباشر على أوضاعهم الداخلية، خصوصا في ظل الصراع بين الجزائر والمغرب على الأسواق الأفريقية. أما الدور الفرنسي فيبدو في وضع شديد التعقيد، بالنظر إلى علاقات باريس التاريخية مع الدولتين، ومع ذلك، فإن ما تسرّب عن محاولة فرنسية لترتيب مكالمة هاتفية بين الرئيس تبون والملك محمد السادس، يشير إلى فشلٍ كبيرٍ في إمساك خيوط اللعبة المعقدة.
دخول إسرائيل عاملاً مؤثراً في طبيعة العلاقات البينية العربية ونوعيتها، لعب دوراً كبيراً في تسميم الأجواء
من كل ما مضى، يتّضح أن الوساطة، في حد ذاتها، اليوم بين الجزائر والمغرب، باتت تحدّيا كبيرا للجميع، بل إن دعوات جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاسلامي والأمم المتحدة، إلى تغليب لغة الحوار، سرعان ما تتبخّر أمام هول هذا التحدّي، ذلك أن كل من يطرح نفسه لأفعال الخير الدبلوماسية، وما تسمى المساعي الحميدة بين الشقيقتين اللدودتين، سيكون محل حسياسية مفرطة من هذا الطرف أو ذلك، ويكون عليه أن يدفع ثمن القراءات الخاطئة والأحكام المسبقة، بالاضافة إلى موقعه من الصراع.
ومع ذلك، علينا أن نعترف، في المقابل، بأن دخول إسرائيل عاملا مؤثرا في طبيعة العلاقات البينية العربية ونوعيتها، لعب دورا كبيرا في تسميم الأجواء. وعلى العقلاء أن يدركوا أن نجاح أصحاب النيات الحسنة في رأب الصدع بين الأشقاء لا يمكن أن يمرّ في ظل القبول بأصحاب المخططات الخبيثة بيننا، وفي تحوّل الكيان الغاصب للأرض العربية إلى حليف موثوق يتم الدفاع عنه للانضمام للاتحاد الأفريقي، وربما يتم طرحه غدا عضوا كامل الحقوق في جامعة الدول العربية. وغير هذا، لن نأمل من كل المساعي المكبوتة أكثر من النجاح في منع ما هو أسوأ، والحفاظ على الوضع القائم، لئلا ينجرف الوضع إلى ما خطّط له الشيطان الصهيوني من أجل مواجهة كبرى، وقد دخل بين الشقيقين، وأدى دوره كاملا في الوسوسة، نعوذ بالله من شر الوسواس الخناس.