حرب أكتوبر وبروباغندا الانتصار الزائف في إسرائيل
لا يعترف الإسرائيليون بهزيمتهم في حرب أكتوبر/ تشرين الأول (أو يوم الغفران) 1973، لكنهم حين يقارنونها بانتصارهم الخاطف والكبير في يونيو/ حزيران 1967 يدركون أن ما وقع كان صعبا ومؤلما على المستويات كافة. تقول الرواية الرسمية الإسرائيلية إن الخسائر البشرية التي تكبّدتها إسرائيل في هذه الحرب تفوق ما تعرّضت له في كل الحروب التي خاضتها، والحديث يدور حول عشرة آلاف عسكري بين قتيل وجريح وأسير (2222 قتيلا، 7500 جريح، 294 أسيرا). كانت الأيام الخمسة الأولى الأصعب طوال الحرب؛ حتى أن أكثر من نصف الخسائر المشار إليها وقعت في هذه الأيام تحديدا، وقدّر عدد المفقودين في هذه الأيام بالمئات، 16 منهم لم يُعثر عليهم، ولا على جثامينهم. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد الإسرائيليون أنهم خرجوا من هذه الحرب منتصرين، لكنه كان انتصارا مثيرا للجدل، وبكلفةٍ باهظة الثمن.
حين نعود إلى الإعلام الإسرائيلي في أثناء أيام الحرب نجد أن تعامله معها تشابه، بشكلٍ لا تخطئه العين، مع الإعلام المصري في تغطيته هزيمة يونيو، بمعنى أن الإعلام الإسرائيلي، وحتى تصريحات المسؤولين والعسكريين هناك، كانت تستخدم أسلوب بروباغندا الانتصار الكاذب التي استخدمت في مصر من قبل، وإن لم يكن بالدرجة الساذجة نفسها بالضرورة.
ومنذ كشفت إسرائيل عن وثائق كثيرة خاصة بحرب أكتوبر، في مطلع الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) توالت الكتابات التي عادت بالذاكرة 50 سنة إلى الوراء، لترصد أخطاء الماضي وإخفاقاته، أكثر من رصدها إنجازاته ونجاحاته. وخلال الأسابيع الفائتة، جاء الكتّاب على التقصير الاستخباري، وسوء تقدير الموقف العسكري على الجبهتين المصرية والسورية، قبل نشوب الحرب، وسوء تقدير العسكريين الإسرائيليين خطط القيادة المصرية. لكن ما لفت الانتباه المقالات عن تغطية الإعلام الإسرائيلي السيئة الحرب؛ ففي مقال نشرته المكتبة الوطنية الإسرائيلية عنوانه "إخفاء للحقيقة أم كذب؟ هكذا تحدّث الإعلام عما جرى في حرب يوم الغفران"، ذكر الكاتب الإسرائيلي شير أهرون برعام أن حرب يوم الغفران كانت، ولا تزال، أكثر الحروب المؤلمة في الذاكرة الجماعية الإسرائيلية، إلى درجة أن أحاديث كانت متداولة في الشارع عن استعدادات السكان بحفر مقابر جماعية.
الإعلام الإسرائيلي، وحتى تصريحات المسؤولين والعسكريين هناك، كانت تستخدم أسلوب بروباغندا الانتصار الكاذب التي استُخدمت في مصر من قبل، وإن لم يكن بالدرجة الساذجة نفسها بالضرورة
كانت الحكومة الإسرائيلية تدرك، في ظل خطورة الأوضاع، وحالة الارتباك الكبيرة التي تعيشها، ضرورة رفع الروح المعنوية بقدر الإمكان، فاهتمّت بالسيطرة على الإعلام، وسلّطت الضوء على بعض التفاصيل، وتجاهلت أخرى. ولم تكن الصحف الكبرى تقوم برسالتها الصحافية الحقيقية، بطرح الأسئلة الصعبة التي يفرضها الظرف، وكانت تكتفي بنشر رسالة الحكومة وبياناتها فحسب، وتتماهى معها، رغم كارثية الوضع على الجبهة. وفي بيان أعلنه المكتب الصحافي الحكومي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ظهر كيف تجنّبت الحكومة إخبار الرأي العام بمدى صعوبة الأوضاع، والاكتفاء بإعطاء معلوماتٍ عامة عن هجوم للقوات المصرية والسورية، ووقوع معارك عنيفة لاحتواء الهجوم، إلى جانب انضمام قوات الاحتياط متأخّرة جدا، قبل ست ساعات من اندلاع الحرب، طبقا لشهادات عسكريين إسرائيليين، آخرها ما نشرته "يديعوت أحرونوت" في 28 سبتمبر/ أيلول الماضي في مقابلة مع رئيس الاستخبارات العسكرية حينها، اللواء إيلي زعيرا، والذي أقيل هو وعسكريون آخرون، نتيجة الفشل الاستخباري في الحرب. وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أصدر الجيش الإسرائيلي تحديثا يقول فيه إن قواته أسقطت 10 مروحيات مصرية، ودمّرت عشرات الدبّابات، وأوقعت أضرارا فادحة بالعدو، إلى جانب أسر أعداد كبيرة من الجنود المصريين.
كانت بيانات اليومين، الأول والثاني، للحرب تركّز على تصدّي الجيش الإسرائيلي للقوات المصرية والسورية، ووصف تفاصيل محدودة عن القتال لإخفاء حقيقة أن الجيش لم يكن مستعدّا في ذلك الوقت، والأكثر من ذلك أن المكتب الصحافي الحكومي، في اليوم الثاني للحرب، أرسل بيانا للصحف، عنوانه "يجب الاستمرار والعمل لاستكمال الإعداد للانتخابات"، وكان الغرض واضحا؛ فإعلان بهذا الشكل يعني أن الحرب لن تطول، وأنها لن تؤثّر في الإدارة الصحيحة للدولة. لاحقا، وتحت عنوان "السياح لن يغادروا إسرائيل"، كتبت الصحافة الإسرائيلية حينها "عشرات الآلاف من السياح المقيمين في الفنادق والمنتجعات في إسرائيل لا يفكّرون في إنهاء عطلاتهم، والوضع هادئ بين السياح، وكلهم، باستثناء أفراد معدودين، سيستكملون زيارتهم".
لم يكن الإعلام يتحدّث مطلقا عن الخسائر الإسرائيلية في الأرواح أو المعدّات، ويركّز، في المقابل، على تفصيل كل خسائر العدو
كان انشغال الحكومة الإسرائيلية حينها بصرف انتباه الشعب عن الصورة الكاملة التي تقول إن إسرائيل تتعرّض للهجوم من كل ناحية، من خلال بثّ النجاحات الصغيرة. ولم يكن الإعلام يتحدّث مطلقا عن الخسائر الإسرائيلية في الأرواح أو المعدّات، ويركّز، في المقابل، على تفصيل كل خسائر العدو. وكانت اللقاءات المتلفزة تقتصر على المراسلين العسكريين، وقصص شخصية لبعض الجنود، وربما مقابلة مع أحد الأسرى المصريين. وفي مقابل ذلك، نشر الإعلام تصريحا للحاخام الأكبر في إسرائيل إن "الرب لن يتخلى عن شعبه، ولن يترك ميراثه".
وتُجمع أغلب الكتابات المعاصرة على أن الحكومة الإسرائيلية لم تكن تعرف، في بداية الحرب، كيف تنقل إلى الجمهور صورة الوضع الكارثي؛ من صراع متعدّد الجبهات، وحالة عدم اليقين. وخلال الأيام الأولى للحرب، كان سعيها واضحا إلى تضخيم أي نجاح صغير؛ من ذلك مثلا أنها وزّعت بيانا صحافيا في 15 أكتوبر/ تشرين الأول يقول إن قواتها تمكّنت من "تدمير الوحدة المغربية بالكامل"، وهو خبر لإظهار نجاح كبير للجيش، لكن عمليا كان عدد من سقط من التجريدة المغربية، التي أرسلها ملك المغرب، الحسن الثاني، لمساعدة الجيوش العربية، وتحديدا على الجبهة السورية، طوال أيام الحرب حوالي 150 شهيدا.
هذا ما كانت تعلنه البيانات الرسمية خلال أيام الحرب، لكن الحقيقة أن خطوط الدفاع الإسرائيلية في سيناء جرى اختراقها في ساعات قصيرة، وفي 8 أكتوبر، بدأت القيادة الجنوبية خطّة هجوم مضادّ تبيّن أنها خاطئة، وساهمت في إخفاقاتٍ كثيرة في الأيام الأولى من القتال، وفي الجبهة السورية، بدأت الاشتباكات في وقت مبكّر عما كان متوقعا، وتعرّضت إسرائيل لخسائر كبيرة وسقوط عدة طائرات لها.
تُجمع أغلب الكتابات المعاصرة على أن الحكومة الإسرائيلية لم تكن تعرف، في بداية الحرب، كيف تنقل إلى الجمهور صورة الوضع الكارثي
ولم يكن نهج الصحافة الإسرائيلية مختلفا عن بيانات الحكومة في المبالغة، أو ادّعاء إنجازات زائفة؛ فنشرت صحيفة دافار عنوانا كبيرا على لسان رئيسة الوزراء غولدا مائير "لم نفاجأ .. ليس هناك شك في انتصارنا". وبينما كانت إسرائيل تمرّ بأصعب أوقاتها، نشرت "دافار" أيضا في اليوم الثاني للحرب تصريحات لوزير الدفاع موشيه ديان تحت عنوان "الجيش يتحكّم في الحرب"، قال فيه "تريد إسرائيل الانتصار في هذه الحرب، وتكبيد العدو خسائر فادحة جرّاء المغامرة التي قام بها، حتى لا يفكّر في الدخول في حربٍ ضدّنا مرّة أخرى. إن إسرائيل ليس لها أهداف سياسية من هذه الحرب، لأنه لو كانت لدينا هذه الأهداف لأخذنا المبادرة، ولكانت قواتنا الآن على الضفة الأخرى للقناة. الجبهة الأردنية هادئة، وآمل أن يتحلّى الأردنيون بما يكفي من الحكمة، وألا ينجرّوا إلى الحرب، فقد عانوا من سبتمبر أسود من قبل، وبالتأكيد هم لا يريدون أن يعانوا من أكتوبر أسود". وخلال اليومين الثاني والثالث للحرب، نشرت صحيفة معاريف رسما كاريكاتوريا يصوّر الشاب الإسرائيلي "شروليك" (الاسم الأشكنازي لكلمة إسرائيل) مُمسكا بيديه العاريتين طائرين خارقين يرمزان لمصر وسورية. ونشرت صحيفة "عل همشمار" خبرا أن "دبّابة إسرائيلية واحدة تمكّنت من تدمير 17 دبابة مصرية"، كما نشرت صحفٌ أخرى توجيهات الحاخامات اليهود بضرورة مراعاة الوصايا الدينية التي تخصّ الاحتفال بالأعياد، وعدم تدنيس أي أمر مقدّس بأمور مدنية لا علاقة لها بالالتزامات الشرعية.
لقد مثّلت حرب أكتوبر صدمة كبرى لإسرائيل؛ فقد استيقظ الإسرائيليون على الثمن الباهظ الذي دُفع مقابل هذا الادّعاء بالانتصار، وتغيّر وجه الحياة السياسية تماما، وأقيلت قيادات عسكرية كبرى، واستقال مسؤولون سياسيون، وتغيّرت السلطة على وقع الصدمة والفشل، وبقي الإعلاميون الإسرائيليون كما هم بعدما تبيّن أنهم كانوا يرتدون زيّا عسكريا موحّدا، وكأنهم في معسكر يقومون بالتعبئة العسكرية، من دون تمييز الفرق بين ما تستدعيه الحروب من رفع الروح المعنوية وتوحيد المجتمع وإعداده لتقديم التضحيات، والمبالغة وتزييف الحقائق وإخفاء المعلومات.