حرب السودان وأسطورة الطفل الجشع
تستطيع أن تفهم الحرب الدائرة في السودان في مستواها السياسي المباشر عبر وصف جهات الاصطفاف ودلالات الخطاب الـمُعلن (أو القابل للاستنتاج) بقدرٍ كبير من السهولة، فالبلد الذي كان قبل انفصال جمهورية جنوب السودان في العام 2011، كانت مساحته تساوي مساحة أوروبا الغربية تقريبًا (حوالي مليونين ونصف المليون كلم). وهذه المساحة الشاسعة مع ما يعانيه السودان، منذ الاستقلال، من تدني كفاءة الدولة والعدد الهائل من الهويات الإثنية والعرقية المتجاورة من دون حدٍّ كافٍ من الاندماج الوطني الحقيقي، جعلت البلد قارّة مرشّحة للتفكّك دائمًا. لكن السبب الرئيس في وصول السودان إلى ما وصل إليه اليوم الدور المتضخّم للمؤسّسة العسكرية السودانية، وإصرارها على الانفراد بالجانب الأكبر من السلطة والثروة مع فسادٍ مشهودٍ وسلطويةٍ متجذّرة، ما جعلها "طفل السودان النهم" الذي لا يكاد يشبع!
و"الطفل النهم" تعبير يلخّص أسطورة موحية جدًا تشكّل أحد أهم مكوّنات ثقافة شعب بالاو، تلك الدولة الصغيرة المكوّنة من مئات الجزر في المحيط الهادئ. وتتلخّص الأسطورة في أن هذا الشعب البدائي الذي يعيش على أنماط اقتصادية بسيطة تجمع بين الزراعة والصيد ولد فيه فجأة "طفل نهم". وبمرور الوقت أصبح طعام هذا الطفل يستهلك القسم الأكبر من محصول ما يزرعون وما يصطادون، وتضخّم جسدُه حتى صار عملاقًا يصعدون على سلم كبير حتى يستطيعون الوصول إلى فمه لإطعامه. ومع التضخّم المطرد في حجم ما يأكله هذا "الطفل النهم" أصبح خطر الجوع يهدّد أهل بالاو فعلياً. وعند هذه النقطة، قرّر الشعب التفكير في التخلص من "الطفل النهم" لإنقاذ الشعب!
وبالفعل، قرّر أهل بالاو جمع قشٍّ جافٍّ حاصروا به الكوخ الذي يعيش فيه هذا الطفل العملاق وأن يشعلوا فيه النار، ووقفوا يتفرّجون على النار تلتهم جسده. والفكرة التي تشير إليها الأسطورة أن الأمم تتحمّل "الأطفال الجشعين" (النظم الحاكمة أو النخب الفاسدة أو المؤسّسات التي تصرّ على الانفراد بالسلطة والثروة) إلى حين، ثم تأتي لحظةٌ لا مفر منها تتخّلص فيها من كل أمة من "طفلها الجشع" ولو بالنار.
المسار الطويل الذي قطعته الثورة السودانية كان إعلانًا واضحًا أن الاستئثار بالسلطة والثروة قد وصل إلى طريقٍ مسدود
وفي المشهد السياسي العربي ثمّة ما يشير إلى دخول عدة دول هذه المرحلة، ففي لبنان كانت الثورة التي اندلعت في أعسطس/ آب 2019 محاولة شديدة الجدّية لقتل "طفل لبنان الجشع". ويبدو أن العراق بدأت فعليًا في التخلّص من "طفلها الجشع" بعد الحركة الاحتجاجية غير المسبوقة التي قادها التيار الصدري، بدءًا من أغسطس/ آب 2022، حيث تكشّفت ملامح واحدة من أكبر عمليات النهب الاقتصادي السلطوي في تاريخ العرب الحديث، حيث يقدّر بعضهم حجم ما ضيّعته النخبة السياسية بما يقرب من تريليون دولار منذ إطاحة نظام صدّام حسين.
و"طفل السودان الجشع" بمكوّنيه: النظامي وشبه النظامي، على الأرجح حفر قادة فريقيه قبره بأيديهم، فالمسار الطويل الذي قطعته الثورة السودانية كان إعلانًا واضحًا أن الاستئثار بالسلطة والثروة قد وصل إلى طريقٍ مسدود، وعجْز الفريقين المتحاربين عن "ادّعاء" (مجرد ادّعاء) الأحقّية في السلطة متغيّر جديد في التركيبة السياسية السودانية التي أنهكتها الانقلابات العسكرية. ومن يرصُد مفردات خطاب الجنرالين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، سيلفت نظره، من دون جهد كبير، أن خطاب "إنقاذ الوطن" وحتمية الانفراد بالسلطة والثروة اختفى، وحلّ محلّه (حتى لو مجرد ادّعاءات) خطاب الدفاع عن عملية الانتقال السياسي والرغبة في إتمامها، بل في حمايتها، ما قد يعني أن "طفل السودان الجشع" لا يريد أن يكون مصيرُه محاصرة كوخه بأكوام القشّ وإضرام النار فيه.
وما أدركه سكان بالاو الصغرى قبل آلاف السنين وصاغوه في أسطورةٍ موحية، لا يستبعد أن تكون شعوب عربية عديدة قد أدركته بعد ما يزيد على سبعة عقود من الفشل، منذ بدأت حقبة الاستقلال الوطني، والشعوب التي أذعنت عشرات السنين لنزوات كل أنماط "الأطفال الجشعين" لم تعد قادرةً على الاستمرار في التعايش مع شبح الجوع الذي يقترب بوتيرةٍ متسارعةٍ جدًا، والتخلّص من العمالقة النهمة يبدأ في عالم الأفكار، وتغير القناعات شرط موضوعي رئيس لتغير البنى السياسية. أما الوسائل فتأتي لاحقًا، وقد تكون شرارة التغيير في بساطة ما روته الأسطورة الباسيفيكية. واطلبوا الحكمة ولو في "بالاو".