حرب الشعبوية على الديمقراطية
لم تكن واقعة اقتحام الرئيس ترامب مبنى الكونغرس الأميركي، ليلة الخميس 7 يناير/ كانون الثاني الجاري، مجرد حلقةٍ في مسلسل التقاطب الحزبي والسياسي الذي أفرزته الرئاسيات الأميركية أخيرا، بقدر ما مثلّت طورا دراماتيكيا في الأزمة التي تشهدها الديمقراطية الليبرالية على مختلف الأصعدة.
كشفت هذه الواقعة العجز المتنامي لدى هذه الديمقراطية عن إدارة حزمة تناقضاتٍ تخترقها، وفي مقدمتها التناقض بين المرتكزات التي تنهض عليها، سيما فيما يرتبط بالحقوق والحريات، والمشاركة السياسية التي تفترض إدماج مختلف أطياف المجتمع من دون إقصاء. وهو ما يعني ضرورة تحقُّق قدر كبير من الاندماج الاجتماعي الذي يساعد على حل معضلات التنمية، بإشراك المقصيين في دورتها الاقتصادية والاجتماعية. هذا التناقض يشتبك بتناقض آخر بين هيمنة اقتصاد السوق والجيل الثاني من حقوق الإنسان ممثلا في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، باعتبارها تحيل إلى مبدأ المساواة، وتفتح المجال أمام الأفراد لاندماج حقيقي في المجتمع، من خلال المساواة في الفرص وتوزيع الثروة والدخل، فالحرية السياسية، على أهميتها، لا تفرز امتداداتها داخل المجتمع من دون تحقق الاندماج الاجتماعي الذي لا يعني غير العدالة التوزيعية وعدم شعور الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم، بالإقصاء الاقتصادي والثقافي.
شكلت الشعبوية، بمختلف تنويعاتها، محاولةً للإجابة عن هذه التناقضات، عبر استيعابها طيفا واسعا من اليمين المحافظ والمتطرّف، واليسار المتطرّف، والفاشيين والقوميين ومناهضي العولمة. وهو الأمر الذي بات يربك حسابات المؤسسات السياسية التقليدية. وليس هناك إرباك أكثر دلالةً من مشهد اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس، أحد رموز الديمقراطية الأميركية، في مسعى إلى تعطيل المصادقة على فوز جو بايدن بمنصب الرئاسة. وبقدر ما يدلّ هذا المشهد على الأزمة العميقة التي تواجهها هذه الديمقراطية في مواجهة اليمين الشعبوي الأميركي الصاعد، يسائل، أيضا، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، جانبا من السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي كانت دائما حريصةً على تقديم نفسها زعيمة العالم الحر، التي لا تتوانى في الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
تؤكد واقعة اقتحام مبنى الكونغرس، بما خلفته من شرخ سياسي ومجتمعي، أن الشعبوية تخوض حربا ضروسا ضد الديمقراطية، مستثمرةً تناقضات الأخيرة، وعجزها عن التكيف مع ما يستجد داخل المجتمعات الغربية من تحولاتٍ متسارعة. وقد لا يكون من المبالغة القول إن الأمر يتعلق بمرحلةٍ جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار في المشهد السياسي الأميركي، سيما في ظل ما يُتوقع أن تخلفه الجائحة من ارتجاجات مختلفة على المدى البعيد.
استغل ترامب الانقسامات العرقية والثقافية في الولايات المتحدة بغرض بناء قاعدة عريضة لخطابه اليميني والشوفيني، موظفا أنماط تعبئةٍ مغايرةٍ مكّنته من التحول، في نظر مؤيديه، إلى مخلص جديد، قادر على تجديد السياسة الأميركية التي احتكرتها الطبقة السياسية التقليدية، سواء المنتمية إلى الحزب الجمهوري أو الديمقراطي. وبصرف النظر عن ما يمكن أن تؤول إليه محاولة تفعيل مسطرة العزل بحقه خلال الأيام المتبقية من ولايته، فقد نجح في بناء تيار شعبوي أميركي واضح المعالم، وعمّق، أكثر، هذه الانقسامات الخادشة لصورةَ الديمقراطية الراسخة التي طالما فاخرت بها الولايات المتحدة. كما غذّى الشعور لدى فئاتٍ واسعةٍ بعدم الثقة في المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية القائمة. ولذلك وجد شعار ''لنجعل من أميركا عظيمة مرة أخرى''، الذي رفعه في حملته الانتخابية أخيرا، صداه لدى هذه الفئات التي شكلت الحاضنة الاجتماعية والسياسية لتمدّد خطابه في السنوات الأربع المنصرمة.
لم تكتفِ الترامبية بكشف مكامن الضعف في الديمقراطية الأميركية، بل أسهمت، كذلك، في تحيين أسئلة الديمقراطية، خصوصا في ما له صلة بالتعدّدية التي يبدو أن المجتمعات الغربية، بوجه عام، باتت تجد صعوبةً بالغةً في استيعابها، في ظل تنامي مشاعر العنصرية والكراهية ضد الأجانب والمهاجرين والأقليات. وهي المشاعر التي ستسهم الجائحة في تغذيتها أكثر، على اعتبار أن تداعياتها الثقافية لن تكون أقلّ وقعا من تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.