حركة النهضة والخوف من النقد الذاتي
مرّت الذكرى الثانية والأربعون لتأسيس حركة النهضة في ظروفٍ مختلفةٍ عن سابقاتها. رئيس الحركة مسجون مع عدد من مؤسّسيها، ومقرّاتها مغلقة، وأنصارُها قلقون بعد أن انقلبت موازين القوى، وانتقلوا من السلطة إلى السجون التي فتحت أبوابها لهم من جديد، فقوس الحريات يضيق، وإمكانية الوصول إلى أجهزة الدولة عن طريق صناديق الاقتراع يكاد يتبخّر، ليجدوا أنفسهم في أوضاع شبيهة بالثمانينيات والتسعينيات. فماذا حدث؟ وما هي السيناريوهات المتوقّعة؟
بلغت حملة التحريض بغرض إقصاء النهضويين من المشهد السياسي مداها، حتى اعتبر بعضهم أن الأصل في الأشياء أن يكون الإسلاميون في السجون، ولا يتمتّعون بالحرية والمشاركة إلا في حالات استثنائية. وتوقّع هؤلاء الخصوم أن يؤدّي اعتقال الغنوشي ومساعديه، وإغلاق مقرّات الحركة تمهيدا لحلها، إلى دفع الكوادر والأنصار إلى التشنّج والنزول إلى الشوارع بكثافة وإحداث الفوضى، وربما التورّط في العنف والإرهاب. لكن الحزب لم يسقط في هذا الفخّ، وتمسّكت قيادته الحالية بضبط النفس، وبالخط السياسي. كما وضعت القيادة الهجمة الأمنية على الحركة ضمن الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد. وهو ما أكسبها قدرا من التعاطف الداخلي والخارجي، بعد أن كان يُنظر إليها خطرا داهما يهدّد البلاد والعباد، فالحركة متهمة باغتيال خصوم سياسيين لها، وتسفير شباب توانسة نحو بؤر التوتر، ولها تنظيم أمني سرّي، وقامت باختراقات أمنية نوعية، وهو ما يدفع إلى التساؤل، لماذا لا تستعمل كل هذه الأسلحة في لحظة تتعرّض فيها من الدولة العميقة لمحاولة اجتثاثها؟ لهذا كان لافتا أن تؤكّد القيادة التي ورثت المسؤولية بعد اعتقال المؤسّسين أن "عمل الحزب مستمرٌّ في ظل الشرعية والقانونية رغم الإغلاق الظالم لمقرّاته". وعندما اتسعت الاعتقالات لتشمل عشرات السياسيين والنشطاء من دون تمييز بين الإسلامي والليبرالي واليساري، واتهامهم جميعا، رغم تناقضاتهم الشديدة، بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي من دون دليل قاطع، تحرّكت أطراف لها وزنها الرمزي، جديدهم أخيرا أساتذة القانون في أبرز الجامعات التونسية، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين.
هذا جانب من الصورة. ولكن بما أن المناسبة تتعلق بتأسيس حركة النهضة، كان المفترض أن تجري القيادة الحالية مراجعات عميقة تأخّرت كثيرا لأسباب داخلية بالأساس، وأن تختار طريقا واضحة لاستكمال المسيرة، فما حدث للحركة هو نتيجة نكسات متتالية واختيارات غير صائبة، فالأخطاء الجسيمة والمتتالية التي تراكمت تدريجيا، والتي بدأت منذ الإعلان عن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي، وهو قرار اتخذته القيادة للتورية عن خطأ سابق نتج عن اكتشاف الأجهزة الأمنية التنظيم، وهو ما أدّى إلى تعقيدات عديدة كادت أن تفجّر الحركة وهي في بداية مشوارها السياسي.
هذا التاريخ المثقل بالحسابات المرتجلة والرهانات العشوائية هو الذي أدّى إلى حالة الشلل التي يعاني منها أكبر حزب في البلاد بعد الحزب الدستوري الذي أسّسه الرئيس الحبيب بورقيبة، وهو المشروع الذي آمنت به أجيال متلاحقة، وضحّت من أجله، واضطرّت لتقديم الكثير، فلم تجن من ورائه سوى الأزمة تلو الأزمة. وبدل أن تحقق آمال الجماهير التونسية ومطالبها، حصل العكس تماما، حيث تعمّقت أزمة الثقة في الإسلاميين، وسكت عموم التونسيين عما فعله الرئيس قيس سعيّد بهم وبالمعارضة.
الوقوف عند الأخطاء شرط ضروري لتجاوز لحظات الموت السياسي، فمن الطبيعي أن تتصدّى الحركة للرئيس سعيّد بالطرق السلمية والديمقراطية، حتى تتمكّن من التنفس وحماية نفسها من تفكّك متواصل. ولكن من الخطأ الاعتقاد أن الرجل ومساره هما السبب الحقيقي أو الرئيسي لما تواجهه "النهضة" من مخاطر الموت السياسي. هو نتيجة وليس العلة. المشكلة تكمن في الطريق الذي اختارته الحركة، وفي منهجها في العمل، وفي أسلوب إدارة الشأن الداخلي، وفي تعاملها مع الآخرين، وفي كيفية وضعها الخطط والأولويات، وفي كيفية اختيارها الحلفاء.
الظرف مناسب للقيام بمراجعة جادّة وصادقة وعميقة. لا تعيدوا الخطأ نفسه، وتتّخذوا من القمع المسلّط عليكم اليوم تبريرا لعدم التصدّي للأمراض التي تفتك بالحركة. فعلتم ذلك من قبل فكانت النتيجة مزيدا من الأخطاء والتيه.