حماقات متبادلة
حين فرضت السعودية والإمارات والبحرين، في عام 2017، حصارها على دولة قطر، ظهر خبر من بين طرق الحصار، كان مثيرا للدهشة والأسى في الوقت نفسه، لفرط غرائبيته ولا معقوليته. كان عن إعادة السلطات السعودية قطعان الإبل المملوكة لرعاة قطريين، والتي ترعى في الأراضي الممتدّة بين قطر والسعودية، نوعا من الضغط الذي مورس وقتها على قطر. أفاد الخبر يومها أن مئات من الإبل قد ماتت من شدّة الجوع والعطش، بعد أن جرى ترحيل الرعاة وترك الإبل وحدها مشرّدة في مناطق صحراوية جرداء حارّة من دون طعام ومن دون ماء. كان خبرٌ كهذا يصلح ليكون خبرا ساخرا كأحد أخبار الموقع الإلكتروني "الحدود"، (يقدّم مقالات ساخرة عن واقعنا العربي). وربما أتذكر أن هذا الموقع نشر الخبر في قسم "ليتها الحدود"، المختص بنشر الأخبار الغرائبية التي يصعب تصديق حدوثها، لكنها حدثت.
لا حدود في السياسة لأي شيء. تثبت لنا الأيام دائما أنه فيما يخص السياسة علينا تحطيم سقف التوقعات، وانتظار المزيد مما سيتحفنا به الجنون، وتجود به علينا السياسة الكيدية التي يبدو أنها أصبحت سمة عامة، سوف يوسم بها هذا الزمن في التاريخ المقبل، هذا إن لم يحدُث ما يجعل أصابع حكام الدول الكبرى تضغط على أزرار أسلحتها النووية، لتعيد البشرية إلى مرحلة النشوء الأولى. وربما يكون هذا هو الحل الوحيد: تدمير كل شيء، وترك الكوكب البشري لمن سينجو، فيعيد ترتيبه كما لو أنه مكتشف للتو.
تعود ذكرى حصار قطر وما يتعلق به هذه الأيام مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، فالعقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي على روسيا لا تقلّ غرائبيةً عما فعله في 2017 مع قطر محاصروها. من البديهي أن يضع العالم سلسلة من العقوبات السياسية والعسكرية والاقتصادية في محاولةٍ لكبح جماح الجنون البوتيني، ووقف حربه الظالمة ضد أوكرانيا؛ خصوصا أن لبوتين سوابق في الخداع والكذب فيما يخص قصف المدنيين في أحيائهم. والسوريون أكثر من يعرف أن ما فعله بوتين في بلدهم سوف يعيد فعله في أوكرانيا، ليس فقط لحماقة استعراضية مغرورة فيه، بل لأن فعلته في سورية كانت تحظى بدعم دولي علني ومستتر، فقد صمت المجتمع الدولي عن كل الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين، بذريعة أن النظام السوري طلب منه (بوتين) رسميا التدخل. ولكن أن يمر تصريح روسي، إن روسيا جرّبت أسلحة جديدة في سورية، من دون أي رد فعل دولي، فهذا تواطؤ صريح سوف يجعل بوتين يتمادى في حماقاته العسكرية من دون خوف.
ولعل من غرائب العقوبات على روسيا المتعلقة بالرياضة والإعلام، فكل يوم تصدُر حزمة عقوبات جديدة من كل دولة على حدة، لا يمكن أن يكون لها أي تأثير على عملية الغزو، بل هي تستهدف الشعب الروسي بشكل مباشر، كما لو أن الشعب هو المسؤول عما يحصل. ماذا يعني منع فرق رياضية أو لاعبين روس من المشاركات في مسابقات دولية؟ ماذا يعني طرد إعلاميين روس يعملون في وكالات أنباء أو صحافة دولية؟ ماذا يعني منع موسيقيين وفنانين روس من إكمال حفلات مقرّرة لهم في دولة ما؟ الأمر غير مفهوم حقا، ويندرج تحت بند الغرائبية، ذلك أن هذا كله سوف يربّي مظلومية لدى الشعب الروسي، تجعله يتمسّك بحكومته أكثر، ويبرّر لها ما تفعله.
العقوبة الأكثر غرابة إلغاء جامعة إيطالية تدريس أدب ديستويفسكي (قبل أن تتراجع) ردّا على غزو أوكرانيا، كما لو أن استهداف التاريخ الروسي الأدبي والفكري يلجم حماقة بوتين. ولكن من الأكثر حماقة هنا؟ أما الخبر الذي يستحق فعلا أن يكون في قسم "ليتها الحدود" فهو: "أعلنت الجمعية الدولية لمحبي القطط عقوبات على سلالات القطط الروسية أو التي تمت تربيتها داخل روسيا حيث منعت ظهورها في أي فعالية تنظمها الجمعية حول العالم. نشرت الخبر قناة الميادين منقولا عن موقع صيني يدعى "Global Times". وعلى الرغم من أنه يمكن الشكّ بمصداقية الخبر والموقع، ولكن مع ما يسمع من عجائب العقوبات الدولية على روسيا، فإنه يمكننا التعامل مع خبر كهذا، بوصفه حقيقةً، فما يحدُث يفوق التوقع فعلا.