حمدي أبو جليّل يحكي عن شوارع القاهرة
النبأ حقّا صادم. هذا نعتٌ تقليديٌّ رتيب، لكنه حقيقيّ، ويفي بالتعبير الأكثر صدقا بشأن رحيل القاصّ والروائي المصري حمدي أبو جليّل، الأحد الماضي، عن 57 عاما. هذا عمرٌ قصير، انقضى بلا مقدّماتٍ. ساعاتٍ بعد نعيِه جورج إسحق، نقرأ ابنتَه تنعاه. لم أحظ بمعرفةٍ وثيقةٍ به، غير أن جلسةً طويلة معه، مع بعض الصّحب الطيب في القاهرة، قبل 17 عاما ربما، لم تُغادرني أبدا. أظنّني وقعتُ، حينها، على فائضٍ من الوضوح في شخصه، وكثيرٍ من البساطة، فصارت الألفة أسرع مما يلزم لها أن تصير، ثم جعلتْني لا أفوّت ما يقع بين يديّ مما يكتُب وينشُر، فقرأتُ بعض رواياته، "الفاعل" و"لصوص متقاعدون" ثم "قيام وانهيار الصاد شين" (له غيرها)، غير أن صدمة الوفاة المُباغتة أخذتْني إلى غير ما كتبَ في رواياته ومجموعتيه القصصيّتين، إلى كتابه النادر النوْع، الذي ارتدى فيه حمدي أبو جليّل ثوب الباحث المؤرّخ الحكّاء. إنه كتاب "القاهرة .. شوارع وحكايات" الذي نفدت طبعاتُه منذ أولاها في العام 2008 (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، والذي زادت صفحاتُه عن الخمسمائة، وصاحبُنا معروفٌ بنصوصه الإبداعية القصيرة، ذات الكثافة العالية، وإنْ تحتشد فيها وقائعُ ومرويّاتٌ وخيوطُ أزمنةٍ تعبُر في غير مكانٍ ومكان. والذائع أن كاتب "أسراب النّمل" (قصص) من أصولٍ بدويةٍ في ريف الفيّوم، غير أنه في الجهد البديع الذي أنفقه لإنجاز كتابه ذاك دلّ على قاهريّةٍ فيه عتيدة، على بهجةٍ فيه بالقاهرة التي دوّن عن شوارعها تاريخَها وراهنَها وناسَها وبُناتَها وساكنيها وروّادَها ومساكنَها وزوّارها، عن مقاهيها ومطاعمها وفنادقها، عن الحياة فيها كيف كانت وكيف صارت، الحديث منها والعتيق، وذلك كله بروحيّة الناثر المحبّ، المؤتمن على شواهد التاريخ ومنطوقاته، الوفيّ للمعلومة التاريخية الموثقة المؤكّدة، من دون أن يلبس ثوب الأكاديمي، الباحث في كتب غيرِه وسابقيه.
يُخبر حمدي أبو جليّل قرّاءَه في تقديمه بأنها مصادفةٌ جعلتُه، في أثناء عمله صحفيّا، ينشغل بإنجاز هذا الكتاب الذي يلزم القول، غير مرّة، إنه أثيرٌ إلى النفس، وعلى إتقانٍ طيّب. والصحافة، في الأول والأخير، مهنتُه وعملُه، لا الدرس في التاريخ ولا تعليمه. وربما، من هذا الباب، يُفسَّر عدم نسبَتِه كل معلومةٍ أوردَها إلى مصادرها، واكتفى بثبتٍ في المختتم للمراجع والمصادر التي أخذ عنها وأفاد منها. ولو فعل لكنّا أمام متاهة، لا أمام كتابٍ تتداعى فيه التفاصيل وتتوالى بإيقاعٍ شائقٍ عندما يمضي من حكايةٍ إلى حكايةٍ، وينتقل من زمنٍ إلى زمن، فتنبعث في الحجارة أرواحٌ، وفي الأبنية أنفاسٌ، وفي جنبات المكان وحواشي الشارع والحواري حواليْه تاريخٌ حيّ، الحاضر فيه موصولٌ بماض بعيدٍ وغير بعيد. وفي هذا كله، وغيره، ينتسبُ الذي كتبه أبو جليّل، في مروّياته عن شوارع القاهرة، إلى الاجتماع والتاريخ والأدب، وقبل هذا وبعده، إلى الحكاية التي تحمي ذاكرة المكان ومُقام الإنسان فيه.
نحو 60 شارعا، في القاهرتيْن، الفاطمية والإسماعيلية وفي مصر القديمة وفي امتداداتٍ حديثة، جال فيها حمدي أبو جليّل بعيني مثقّفٍ يعرف قيمة التاريخ الذي لا يجوزُ إغفالُه وأنت تحكي عن المكان، عندما تقف عنده وفيه، وتطوفُ في داخله وخارجه، في قصور حكّامٍ وبيوت ثوّار ومناضلين ودور ناسٍ بُسطاء، في ملامح معمارية وجمالياتٍ في البناء والهندسة، في الذي ينطق بميسم حضارةٍ دون أخرى. ثمّة كثيرٌ مما هو متّصلٌ هنا بالسلطة وتجبّرها، بالقوة، بمنعة الدولة، وأيضا بالضعف، وبهوان الدولة، وكذلك بمعارك ومواجهاتٍ وصدامات، ولا تُنسى مآثر في التعليم والتدريس والتثقيف، في شواهد في هذا الشارع وذاك، في هذه الطريق وذلك الميدان. وعندما يكون اسم الشارع صلاح سالم، سليم الأول، هدى شعراوي، سليمان الحلبي، شارل ديغول، عبد السلام عارف، محمّد محمود، صبري أبو علم، عائشة التيموريّة، طلعت حرب، صلاح الدين الأيوبي، أحمد بن طولون، مصدّق، وغير هؤلاء من أسماء مصريةٍ وعربيةٍ وإسلاميةٍ وأجنبية، فإن سياحةً مبهجةً لا بد وأن تتأتّى لمن يقرأ عن هؤلاء كلهم (وغيرهم)، وكيف ولماذا صارت شوارع وميادين بأسمائهم، وكيف ولماذا تغيّرت الأسماء من هذا إلى ذاك، عندما تغيّرت أزمنةٌ سياسية، وانعطفت القاهرة من أنظمةٍ إلى أخرى، فكان لا بدّ أن يُطاح اسم الملكة نازلي من شارعٍ ليصير له اسمٌ آخر، وهذا مثالٌ على زوبعةٍ من أمثلة.
لزم كتاب حمدي أبو جليّل هذا بعضُ التحرير اللغوي الذي يصحّح وينقّح ويصوّب ويجوّد، غير أن المتن العريض فيه لتاريخ وحكايات في شوارع القاهرة بقي معافى، بقي يضجّ بالمتعة والفائدة والإفادة ... رحم الله هذا الكاتب الذي أخلص في كل ما كَتَب، فأجاد.