حوارات الأنظمة العربية بين تهميش المعارضة والنهج الفردي
بين مبادرات الحوار الوطني ولمّ الشمل، يدور الحديث في بعض البلدان العربية، التي ينطبق بشأنها المثل "جعجعة بدون طحين"، أو "جورج الخامس يحاور جورج الخامس"، لتأكيد أن هذه النظم تسعى إلى حوار شكلي من دون اتخاذ خطوات حقيقية لاحترام مطالب القوى السياسية المعارضة. وهو ما يحدث أيضا بدوره في أجهزة الإعلام الرسمية، التي لا تنطق بغير تعليمات، وكأن الحوار قد أنجز بالفعل، وكأن هذه النظم تحوّلت فجأة إلى الإيمان بالتعدّدية السياسية والرأي والرأي الأخر، وهو ما يدور في كل من مصر، السودان، الجزائر، تونس، موريتانيا.
وقد يكون هذا الأمر إيجابيا، وقد يعتبره بعضهم نيات حسنة، يؤدي إلى إنهاء استبداد هذه الأنظمة. ومع ذلك، لا يزال منهج إدارة الحكم في هذه البلدان كما هو لم يطرأ عليه أي تغيير يختلف عن السابق، كما لا يزال الآلاف في السجون بتهم تتعلق بحرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، ويجرى تغييب مبدأ الفصل بين السلطات وإغلاق منافذ الإعلام باستثناءات محدودة. وبل وتستمر بعض النظم في إجراءاتها الاستبدادية بوضع دستورٍ جديدٍ بشكل منفرد بدون انتظار مقرّرات الحوار الذي يستبعد القوى الأساسية كما يحدُث في تونس. أو في الجزائر بتهميش الحراك الشعبي هناك وإضعافه، باعتقال قيادات فيه، ورفض أي تعديلات في الدستور أو في النظام الانتخابي. وهو ما يضع علامات استفهام بشأن توقيت طرح هذه المبادرات ودواعيه، ومدى وجود إرادة سياسية حقيقية، وصولا إلى تصوّر جماعي متفق عليه من أغلبية القوى المشاركة. ومن جهة أخرى، تبرز خلافات جوهرية بشأن إجراءات هذا الحوار، بدءا بالمحاور المطروحة للنقاش وكيفية اختيار القوى المشاركة، وإمكانات الخروج بتصوّرات بديلة لما أوصلتنا إليه هذه النظم من انهيار اقتصادي واستئثار بالسلطة، ووضع خريطة طريق موضوعية ومقبولة من خلال مناقشة القضايا المهمة والأساسية والالتزام بتنفيذ مخرجات ذلك الحوار.
مخاوف كبيرة لدى الأنظمة المستبدة من تصاعد التحرّكات والتمرّدات الشعبية الداخلية
وهنا يأتي السؤال الأساسي: هل تسمح توازنات القوى الداخلية بحوار حقيقي وتقديم تنازلات من جانب السلطة؟ وقد طرحت هذه المبادرات من نظمٍ تهيمن عليها المؤسسة العسكرية، إما من خلال سيطرة مباشرة كما في السودان ومصر، أو من خلال وكلاء مدنيين كما في تونس والجزائر وموريتانيا.
كما اتصفت أغلب هذه الدول بتراثٍ حافل في الانقلابات العسكرية، وخصوصا في كل من السودان وموريتانيا والجزائر. إلى جانب ذلك، تعرّضت أغلب هذه البلدان لتحرّكات جماهيرية شعبية نجح بعضها في تغيير رأسي النظامين في مصر وتونس، إلا أنها لم تنه سيطرة النظام ككل على البلاد.
والجانب المثير للتساؤل يخص التوقيت الذي تجرى فيه هذه الدعوات في وقت واحد تقريبا، ويمكن تبرير ذلك لعدة أسباب، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. ويفيد الجانب الأول بأن هناك أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية تمرّ بها هذه النظم، بسبب طبيعة سياساتها الإقصائية، التي رسّخت لهيمنة المؤسسات العسكرية والأمنية غير المتخصّصة لإدارة الوضع الاقتصادي، في مقابل الاعتماد على القروض الخارجية، وتهميش الاهتمام بالصناعة والزراعة والاعتماد على القوى الذاتية، وهو ما أوصل تلك النظم إلى أزمةٍ كبيرةٍ بارتهان قرارها السياسي، إما لنظم إقليمية تملك التأثير السياسي والاقتصادي، أو للارتهان لمؤسّسات دولية نافذة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما، والتي تسيطر عليها القوى الكبرى.
تسعى الأنظمة العربية إلى التخلص من أزماتها الداخلية والخارجية عبر الإيحاء بأن هناك توجّها منها إلى الحوار مع القوى السياسية المعارضة
كما عانت هذه النظم من غياب الشرعية الشعبية، لعدم ثقة الشعوب في أدائها والقبول بسياساتها، وتسود مخاوف كبيرة لدى تلك الأنظمة من تصاعد التحرّكات والتمرّدات الشعبية الداخلية، بما يؤدي إلى إطاحتها، كما حدث في مصر وتونس سابقا، والجزائر والسودان حاليا.
الأمر الثاني يأتي بسبب تصاعد الضغوط الخارجية من الدول الكبرى المهيمنة التي تملك علاقة وطيدة مع هذه النظم، وتخشى من مناخ عدم الاستقرار ودخول هذه البلدان في صراع سياسي داخلي، سيؤدّي إلى نمو الإرهاب والهجرة تجاه الضفة الأخرى من المتوسط. كما أصبحت انتهاكات حقوق الإنسان داخل هذه البلدان ملفّا مطروحا بقوة من المنظمات الحقوقية الدولية، للضغط باتجاه احترام هذه الحقوق شرطا أساسيا لتحظى بدعم سياسي واقتصادي من أوروبا. وهو ما ظهر في العلاقة بكل من الأنظمة، التونسي والسوداني والمصري، حيث ترعى الولايات المتحدة، إلى جانب السعودية، حوارات بين المؤسسة العسكرية ومعارضيها في السودان، والمطالبة المستمرّة باحترام المؤسسات الديمقراطية في تونس، ووقف نهج الإدارة التونسية ضد القضاة والصحافيين والبرلمان السابق... بالتالي، وعلى الرغم من الهيمنة الأمنية والعسكرية لهذه النظم على مجريات القرار، إلا أنها تسعى إلى التخلص من أزماتها الداخلية والخارجية عبر الإيحاء بأن هناك توجّها منها إلى الحوار مع القوى السياسية المعارضة.
يخصّ الأمر الثالث منهجية إدارة الحوار بتفويض أشخاص وهيئات تابعة لسيطرة النظام السياسي، في مصر وموريتانيا والجزائر وتونس، بذلك، ولم تؤخذ مطالب القوى الأخرى في الاعتبار. إلا أن ما يبدو هو أن الحوار قد أغلق في الجزائر وموريتانيا قبل أن يبدأ من الأساس. وفي أغلب هذه البلدان، تتصاعد الشكوك نفسها التي تنتاب قوى المعارضة وحركة حقوق الإنسان بأن الحوار سيكون شكليا وصوريا، يفتقد إلى المصداقية، حيث يقتصر على أحزاب الموالاة. فضلا عن غياب قوى أساسية ومؤثرة عن الحوار، لا سيما قوى الحرية والتغيير في السودان، وقوى الحراك الجزائرية وجماعة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها، وحركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل.
على الأنظمة الحاكمة أن تُظهر استعدادا للقيام بتنازلات سياسية محورية، تؤدّي إلى إحداث تغيير حقيقي في هياكل السلطة
وتظل المطالب المشتركة بأن توضَع حلول مبدئية لملف الحريات كمقدمة سابقة للحوار، باحترام حقوق الإنسان والإفراج عن سجناء الرأي. ولو أرادت الأنظمة العربية معالجة الأزمة بصدق، لفتحت بداية باب الحريات عبر إطلاق سراح السجناء السياسيين وفتح باب العمل السياسي والتأسيس لحوار وطني جامع وجادّ، يعمل على وضع خريطة طريق حقيقية، لكن سلوكيات السلطة نفسها لا تنبئ بذلك على الإطلاق. وهو ما يتوجب معه أن يناقش الحوار قضايا أساسية حول كيفية تقاسم السلطة وإجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية عبر نظام انتخابي يسمح بتمثيل كل القوى السياسية، الكبيرة والصغيرة، ووضع دستور يسمح بالفصل بين السلطات، ويعطي صلاحيات للبرلمان، ويحترم استقلال القضاء والمجتمع المدني وفعاليات العمل النقابي العمالي والمهني، فضلا عن حرية الإعلام واحترام حقوق المواطنين وحرّياتهم.
ولن يصل هذا الحوار إلى نتيجة من دون الخروج برؤية لموقع المؤسّسة العسكرية من الحكم، وأن يقتصر وجودها على حماية الدولة والدفاع عن حدودها، ووضع ضوابط تحول دون لعب هذه المؤسّسة دورا أساسيا في إدارة الدولة على المستويين، السياسي والاقتصادي، لا أن يقتصر الحوار على قضايا هامشية وتفصيلية، وألا يقتصر على أحزاب الموالاة بهدف إظهار القوى المعارضة قوى تمثل الأقلية، وبالتالي ليس من حقها وضع قواعد للنظام السياسي، والمشاركة في شؤون إدارة الدولة، أو أن يعكس الحوار رسالة إلى القوى الدولية بأن هناك نهجا مختلفا لهذه الأنظمة. كما أن على الأنظمة الحاكمة أن تُظهر استعدادا للقيام بتنازلات سياسية محورية، تؤدّي إلى إحداث تغيير حقيقي في هياكل السلطة، وتسمح بتداول السلطة بين القوى والأحزاب السياسية المختلفة.