حواريّة مع المنصف المرزوقي
أوّلُ ما يبقى فيك من الحوارية مع الرئيس التونسي الأسبق، والمثقف اللامع، المنصف المرزوقي، في ضيافة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة أمس، أن همّة هذا الرجل في نضالِه الفكري من أجل الديمقراطية في بلده، وفي العالم العربي، لم تخفُت، على الرغم من معاول الهدم الحادّة التي نشطت فيها قوى الثورات المضادّة ضد كل محاولةٍ باتجاه أي تمرينٍ ديمقراطي في أي بلد عربي. فالواضح أن الذي تغالبه تونس من استبدادٍ راهنٍ، بعد تباشير واعدة مضت إليها ثورة الياسمين الرائدة، لم يُشعرْه باليأس، ولا أقعَده عن مواصلة عمله السياسي والفكري العام باتجاه تحقيق ما ناضل من أجله عقوداً، فقد قال لنا، نحن مستمعيه، إنها معركةٌ وخسرها هو وصحبُه من الديمقراطيين العرب، لكن هذا لا يعني أبداً أن الحرب مع قوى الاستبداد والفساد انتهت. وأظنّها فكرةً شديدة الأهمية قولُ صاحب "من الخراب إلى التأسيس" إنّ تعثّر (وليس إجهاض) المسار الذي مضت فيه تونس، بعد الثورة، وكذا الفشل الذي أصاب الذين ناضلوا من أجل الديمقراطية وما زالوا يعتنقونها، لا يعنيان أن يتمكّن لديه، ولدى هؤلاء، شعورٌ بالذنب، وبأنهم مطالبون دوماً بالدفاع عن أنفسهم، أمام ما يُمطَرون بها من هجماتٍ لا ترى في صنيعهم سوى الفشل. وهنا، يجد صاحب هذه السطور وجاهةً كبرى في قولٍ حصيف كهذا، إذ لا يمكن أن يُعتدّ بالعبث الذي يُحدِثُه قيس سعيّد في تونس، وهو غير السويّ وغير الشرعي بحسب المرزوقي محقّا، وإشهاره دليلاً على مثابرةٍ واجبة في الهجوم على المرزوقي ورفاقه من عموم النخب التونسية الذين تولّوا مقاعد أولى في السلطة، وساهموا في دفع عملية التحوّل الديمقراطي الذي كانت تمضي إليه البلاد.
وعندما نسمع من المرزوقي، وهو النّطاسيّ المجرّب، يقول إن النكبة الحادثة في غزّة منذ ستة أشهر واحدةٌ من فواتير فشل الربيع العربي فهو مصيبٌ، فلم يكن النظام العربي ليصير على هذه المنزلة من العجز ومن خذلان الشعب الفلسطيني في غزّة، لو لم ينتكس مسار التمرين الديمقراطي الذي عبرت فيه عدّة بلدان عربية ولم يُحارَب. وكان مثيراً من الحقوقيّ العتيد أن يقول إن للديمقراطية مخالب وأنيابا، مع احترامها القانون وحقوق الإنسان، فهي، من قبل ومن بعد، ليست مسيحية طوباوية. وهنا، يرى أن التسامح الكثير مع قوى النظام القديم ورموزه ورجاله، على ما كانت تفعل حركة النهضة (برأيه)، كان من أسباب الردّة التي صارت عليها تونس، ومكّنت قوى الثورة المضادّة من استخدام أدوات الديمقراطية ووسائلها للوثوب إلى السلطة ودفع الديمقراطيين إلى الوراء، ثم إلى السجون والمنافي. وهنا، كان بالغ الأهميّة من المرزوقي رفضه التسليم المجّاني بأن قوى الإسلام السياسي، في عمومها وبالضرورة، تعارض الديمقراطية، ليس من باب أن كل تيّارٍ يضم أطيافا متنوعة وحسب، وإنما أيضا بالتجربة التونسية التي دلّت على أن حركة النهضة تؤمن بالديمقراطية وتسلكُها، على غير حال علمانيين يساريين غاب عنهم الحسّ الديمقراطي، وانحازوا إلى الاستبداد والإقصاء. مع تذكير المرزوقي مستمعيه بأنه ينتسب إلى العلمانية اليسارية، وبأن حركة النهضة خذلتْه في غير شأنٍ ومحكّ.
طافت الأسئلة التي استمع إليها المرزوقي في الجلسة الحوارية معه، بتقديم عزمي بشارة، في حزمةٍ من القضايا والمشاغل السياسية والفكرية، وعلى ما كان من ارتجاليّةٍ ظاهرةٍ تتباسط مع الحضور، وعلى مقادير من العفوية الطلقة كانت في الأثناء، إلا أن حُزمةً من الأفكار والمطارحات والمكاشفات حضرت في الإجابات بكثيرٍ من العمق، وبحرصٍ على الجوهريّ البعيد في غير مسألة، من قبيل الحديث عن الدولة العربية الراهنة، وأزمتها راهناً ومستقبلا، وعن اليمْنَنة التي تتفشّى، مع الشعبويات، في غير بلد في الشرق والغرب، وعن موجة التضامن العريضة في أوروبا والولايات المتحدة مع قضية فلسطين في غضون حرب الإبادة في غزّة. وقد أعاد المرزوقي هذا الحال إلى البناء الديمقراطي في هذه الدول، وعن مسارٍ طويلٍ من أجل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وكرامته سبق ثورات الربيع العربي بعقود في تونس ومصر وغيرهما. ... وإلى هذه الشؤون، وكثيرٍ غيرها، لم يكن مفاجئا أن يُبلغنا المرزوقي بأن قيس سعيّد يهيّئ لاستصدار حكم قضائي ضدّه بالإعدام، بتكييف نص قانوني، فمن نكد الحال أن يمكُث هذا الرجل في قصر قرطاج فيما تصدُر أحكام السجن تباعاً على المرزوقي، ويودَع راشد الغنّوشي في السجن.