حين أوجدت الصهيونية فرضية "منافع الهولوكوست"
برهنت الزوبعة التي أثارتها إسرائيل، إثر تصريح للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في برلين، على أن الفوائد التي يمكن أن تعود عليها من خلال استخدام الهولوكوست ما زالت في متناول اليد، بل وأكثر من أن تُحصى. وفي هذا السياق، لم يخفِ السفير الإسرائيلي الجديد في ألمانيا، لدى تسليمه أوراق اعتماده أول من أمس الاثنين، اغتباطه بردّة الفعل الألمانية على ذلك التصريح، والتي تثبت برأيه أن ألمانيا ستظلّ حليفة وفيّة لإسرائيل. في الوقت نفسه، لمّح إلى أن إسرائيل لا قِبل لها بعدم الربط بين الهولوكوست وكينونتها، سواء في الماضي أو في الحاضر، كما لا يزال يُجمع معظم الساسة الإسرائيليين، بموازاة ما لذلك من تأثير على العلاقات بين الدولتين.
إجمالًا، يمكن القول إن جني إسرائيل فوائد من استخدام الهولوكوست بات أقرب إلى واقع في حلبة السياسة الخارجية. وتحاول إسرائيل، وقبلها الحركة الصهيونية، أن تجعله لا يُردّ، وبدأت بذلك منذ كان مُجرّد فرضية. وأثبتت وقائع كثيرة أن أولى إشارات هذه الفرضية، في ما يتعلق بمنافع الهولوكوست صهيونيًا، لاحت بقوّة، حتى إبّان وقوعها في وقت كان فيه ضحاياها على قيد الحياة، وذلك ضمن غاية جني فوائد للحركة الصهيونية، في سعيها إلى إقامة "وطن قومي" لليهود على أنقاض وطن الفلسطينيين.
ومثلما ورد في كتاب المؤرّخ الإسرائيلي توم سيغف "المليون السابع" (1991)، فمنذ أول أيام الحرب العالمية الثانية، بدأ قادة "الييشوف" بتداول فرضية أن على ألمانيا أن تدفع تعويضات إلى اليهود عن أملاكهم التي صادرتها وعن المعاناة التي تسبّبت لهم بها، مستندين إلى حقيقة أنه تم فرض عقوبة دفع تعويضات عليها بعد انتهاء الحرب الأولى. وتلقى ديفيد بن غوريون مذكّرة في هذا الشأن خلال عام 1940، كما تكلم قائد آخر من الحركة الصهيونية (بيرل كتسلنسون) عن هذا الأمر علنًا في نهاية 1942. وفي ديسمبر/ كانون الأول 1942، نشطت في تل أبيب منظّمة خاصة باسم "يوستيتسيا" لتسجيل طلبات التعويض من النازيين، وأحاطت الوكالة الصهيونية علمًا بنشاطها، ودعتها إلى تأييده، والاستفادة منه للدفع بـ"غايات صهيونية". وأشارت وثائق للوكالة الصهيونية إلى أن هذه الفرضية وجدت هوىَ لدى قادتها. وأعرب بعضهم عن وجوب أن تضمن خطوة الحصول على تعويضاتٍ أمرين لا يمكن الاستغناء عنهما: أن تكون الوكالة الصهيونية بمثابة الممثل الشرعي والوحيد لليهود ومطلبهم بالتعويض. وألا تُدفع التعويضات إلى الأفراد، وإنما أن تُخصّص لاستيعاب المهاجرين اليهود في فلسطين بواسطة الوكالة الصهيونية (في ما بعد جرى تحويلها إلى الحكومة الإسرائيلية).
ومع أن إنشاء مؤسسة "ياد فشيم" ("نُصُب واسم") الإسرائيلية مركزا لتخليد ذكرى الهولوكوست تم عام 1953، فإن فرضية إقامتها هجس بها أحد قادة "هشومير هتسعير"، وهي منظمة عالمية للشبيبة الصهيونية تأسّست بهدف تنشئة الشبيبة اليهودية على حبّ "أرض إسرائيل" (فلسطين)، والتطلع إلى الهجرة إليها، وهو مردخاي شنهافي، عضو المؤتمر الصهيوني العام، في أواسط سبتمبر/ أيلول 1942، حين عرض على الصندوق الدائم لإسرائيل ("الكيرن كاييمت") المبادرة إلى إقامة موقع تخليد لذكرى ضحايا الهولوكوست. وتعامل الصندوق الدائم مع الاقتراح بمنتهى الجدّية، وأجرى مناقشات حوله من خلال اجتماعات خاصة، وتبادل رسائل، وأقيمت لجنة خاصة لدرسه.
قبل نحو 20 عامًا، أشار المفكر عزمي بشارة إلى أن سبب تعامل الحركة الصهيونية مع الهولوكوست كأنها موضوع يخصّ إسرائيل يعود بالأساس إلى محاولتها اعتبار تاريخ اليهود كله تاريخ ملاحقة واضطهاد يقود إليها، وبناء على ذلك تمّ تأميم ضحايا المحرقة وتحويلهم إما إلى حلقة في تاريخ الصهيونية، رغما عنهم في الطريق لإقامة إسرائيل، أو إلى أداةٍ لابتزاز التأييد للصهيونية وأهدافها عالميًا، أو إلى أداةٍ لتبرير الجرائم التي ترتكبها هي بحق الآخرين، وكأن حجم الجريمة يجعلها هي الضحية بامتياز أو وكيل الضحايا الحصري، وبالتالي، يصعب اتهامها بارتكاب جرائم لأنها ضحية بحكم التعريف.
وما زالت محاولتها هذه في مركز أجندتها.