حين تتحوّل القضايا العادلة إلى مقصلة
حدثت في عام 1994 جريمة قتل في الولايات المتحدة، راحت ضحيتها نيكول براون، الزوجة السابقة للاعب كرة قدم وممثل أسود يُدعى جاي سمبسون، الذي كان المتهم الرئيسي في القضية، واستمرّت محاكمته سنة، حيث اعتمدت جهة الادّعاء في مرافعاتها على الحمض النووي المطابق لجاي، وعلى مجموعة من الأدلة الثابتة ضدّه. لكن المحاكمة انتهت بنفي التهمة عنه، واعتباره غير مذنب في قضية شهيرة شغلت الرأي العام الأميركي يومها. واللافت أنه، رغم بشاعة الجريمة وثبوتها عليه، كان جاي يحظى بتعاطف الشعب الأميركي الذي كان يتظاهر دعما له، ورفضا لمحاكمته، خصوصا في لوس أنجلس حيث كانت جلسات المحاكمة.
كان منطق المتعاطفين مع جاي (وهو ما اعتمدته هيئة الدفاع أيضا)، أن الممارسات العنصرية التي كانت تعتمدها الشرطة الأميركية ضد السود في الولايات المتحدة ذلك الوقت، خصوصا شرطة لوس أنجلس، السبب في توجيه أصابع الاتهام نحوه. اتهمت الشرطه بالتلاعب بالأدلة وبحرف التحقيق عن مذنبين محتملين لمجرّد أنهم بيض، والتركيز على جاي فقط لأنه أسود. ولم يأت هذا الموقف المتعاطف والمنحاز لجاي فقط من السود، بل حتى من مئات آلاف البيض الرافضين للعنصرية والناشطين ضدها ممن وجدوا في هذه القضية فرصة سانحة للاحتجاج على السياسات والممارسات العنصرية الفاضحة. لم يتم اتهام أحد بجريمة القتل تلك، قيّدت ضد مجهول، بينما اكتشف أميركيون كثيرون لاحقا أن جاي قد يكون هو المذنب فعلا، وأن تبرئته كانت خطأ لم يعد ممكنا التراجع عنه.
يمكن فهم ردة فعل الأميركيين وتعاطفهم مع جاي، ذلك أن تاريخا كاملا من العنصرية والظلم والتمييز ضد السود والملوّنين لا يمكن التغاضي عنه، خصوصا في جريمة كهذه. الضحية بيضاء، والمتهم أسود وعنيف، كما عرف عنه، رغم شهرته لاعبا في أميركا. لكن هل هذا التاريخ العنصري يعني السعي إلى إثبات براءة شخص رغم ثبوت الأدلة عليه لمجرّد تاريخ العنصرية ضد عرقه؟ ألا يوجد لدى السود أخيار وأشرار، مثلما الحال لدى البيض؟ أليس افتراض العنصرية في اتهام ملوّن، مع وجود أدلة كافية، عنصرية مضادّة تعمي العدالة وتحاول التغطية على الحقائق؟
يخيل إليّ أحيانا أن قضايا كثيرة عادلة في التاريخ البشري تحوّلت إلى مقاصل تنصب في وجه من يطرح أي استفسار أو يسأل أي سؤالٍ حولها؛ أو تحوّلت إلى أيديولوجيا لا يخفي أصحابها تعصبهم لها. وهذا مضرٌّ بتلك القضايا، ويساهم في نبذ التعاطف معها، أو يجعل من أصحابها مستبدّين أو مستغلين أو يتصرّفون بوصفهم "نخبة" متميّزة على الجميع أن "يطبطب عليها". ولا يتوقّف التاريخ عن تقديم أمثلة عن ذلك، لعل أشهرها الهولوكوست ومعاداة السامية، فبقدر ما كانت عادلةً، تحولت تلك القضية لاحقا إلى سيف يشهر في وجه كل من يعترض على وجود دولة الاحتلال وسلوكها مع الفلسطينيين، كم من مبدعٍ تم تهميشه عالميا واتهامه بمعاداة السامية لمجرّد أنه ساند القضية الفلسطينية ضد محتلٍ بنى أسطورته على مظلومية الهولوكوست؟
حدث هذا أيضا مع السود والملوّنين، تاريخ من التمييز يتم الانتقام له بتمييز مضادّ يمنع الاعتراض على أي سلوكٍ شائن يقوم به ملوّن؛ حدث هذا أيضا مع القضايا النسوية حيث أصبح لدينا، بسبب عقود طويلة من التهميش والتعنيف ضد النساء، مظلومية نسوية تحاول فرض هالة من القدسية حول النساء واعتبارهن معصوماتٍ من الشر. يحدث هذا الآن أيضا في العلاقة مع المثليين والمثلية والعبور الجنسي، حيث يصعب على أحدنا اليوم التعبير عن رأيه الصريح في هذه المواضيع، سوف يضطرّ للمراوغة والالتفاف بالكلام كي لا يتعرّض لسيل من الاتهامات بعدم احترامه حقوق الإنسان والحرية الفردية وحق الفرد باختيار جنسه، مع أن قضية المثلية والعبور الجنسي هي من أكثر القضايا الإشكالية في المجتمعات كلها، وتحتاج نقاشات صريحة وعميقة لرأب الصدع والصدمة التي خلفتها لدى أعدادٍ لا تُحصى من البشر الذين يرون البديهيات التي آمنت بها البشرية تنهار بين ليلةٍ وضحاها.
القضايا العادلة هي التي ينتفي فيها التمييز تماما، ويتم التعامل معها بوصفها من سياقات الإنسانية كلها. أما تمييزها بذريعة مظلومية قديمة فهو كفيل بتحويلها إلى سلطة فوق العدالة، وهو ما يحدُث مع قضايا كثيرة للأسف.