حين تصبح إسرائيل من مصادر الشرعية في السودان
عقب اشتعال الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي) سارع بعض الناس إلى اعتبار ذلك دليلاً على رفض سوداني أي علاقة مع إسرائيل، وسط أنباء عن قرب توقيع اتفاقية تطبيع إسرائيلية سودانية، ضمن إطار الاتفاقيات الإبراهيمية التحالفية التي قادتها الإمارات مع الدولة الصهيونية. ولكن ذلك كان أبعد ما يكون عن حقيقة صراع على السلطة على حساب الشعب السوداني، فكلا الطرفين على علاقة جيدة مع إسرائيل، وفي سباقٍ على كسب ودّها، حتى إن إسرائيل تتحرّك الآن لتكون الوسيط بين الطرفين، ليس سفكا للدماء، وإنما لأن تل أبيب لا تريد أن تخسر إنجازها في كسب "نخب" المؤسّسة السودانية، وهي محتارة بين تأييد أي من الطرفين، فما تحاول أميركا وإسرائيل إنقاذه هو ترسيم اتفاق التطبيع. ولذا تبدو إسرائيل المرشّح الأكبر للعب دور الوسيط، فيما تقف جامعة الدول العربية موقف المتفرّج، فهي ليست قادرة أو جاهزة لشجب الدور الإسرائيلي، أو وضع أسس اتفاق لحكم مدني ديمقراطي في السودان.
ليست علاقة إسرائيل ببعض النخب السودانية جديدة، بل إنها سبقت عهد عبد الفتاح البرهان، ففي عام 2016 اقترح وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات عن بلاده، أي أن المسألة كانت من أصلها عملية انتهازية صرفة تتعلق بقبول أميركي إسرائيلي أولاً بعهد عمر البشير، حتى وصلنا إلى أن تصبح إسرائيل مرشّحة لدور الوسيط والحليف الذي يتنافس عليه طرفان متنازعان. ولا بد أن هناك قنوات سرّية لم يكشف عنها بعد، ولكن، وفقاً للصحف الإسرائيلية، تحرّكت تل أبيب فورا بعد قطع السودان العلاقات مع إيران في عام 2016، وطلبت من واشنطن والدول الغربية الالتفات نحو الخرطوم، إذ وجدت فرصة في إمكانية إحداث اختراق في المؤسسة السودانية، وتم تسريب أخبار مفادها بأن اتصالات مستمرّة بين مسؤولين سودانيين وإسرائيليين، وأن مسؤولاً سودانياً زار إسرائيل سراً في العام نفسه، إلى أن جرى لقاء علني بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير/ شباط 2020 في أوغندا، تبعته في أكتوبر/ تشرين الأول في العام نفسه زيارة وفد إسرائيلي إلى السودان، والتوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات، فلم يكن خافيا أن أميركا كانت تتحرك لضم السودان إلى الاتفاق الإبراهيمي.
ما يحدث جريمة بشعة بحق الشعب السوداني الذي ذاق الأمرّين؛ من إفقار بلاده الغنية إلى زجّها في حروب أهلية
ليست المعلومات أعلاه جديدة، لكن كان لا بد من التذكير بها، فالاختراق الإسرائيلي لم يصل إلى جماعة البرهان فحسب، بل إنه اخترق ووضع قواعد جديدة للعبة الداخلية في السودان. ولم تكن قوات الدعم السريع أبداً في موقع المعارض، بل إنها وفي بداية عام 2022 استقبلت وفداً أمنياً إسرائيلياً في الخرطوم بعلم البرهان، أي قبل عام من زيارة وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين، إلى الخرطوم، تمهيدا لترسيم توقيع اتفاق التطبيع الذي ترى إسرائيل أن الاشتباكات الحالية أضرّت به وقد تطيحه. وقد زاد تلهُّف إسرائيل على إنقاذ الاتفاق من رغبة الطرفين المتصارعين في الحصول على دعمها، إلى درجة أن مستشار قوات الدعم السريع، يوسف عزت، عقد مقاربة بين وضع "إسرائيل المحاصرة" مما سماه الإسلام المتطرّف (حركة حماس)، وما سمّاه معركة قوات الردع مع "الإسلاميين المتطرفين"، ويقصد الجيش بقيادة البرهان، في إشارة إلى أن أعضاء في الرئاسة السودانية هم من رجال حكم الرئيس السابق عمر البشير، ولم يرد عليه أحد من قوات الدعم السريع أو من جماعة البرهان، فعندهما حبّ إسرائيل أولاً.
لم تبدأ المزاودة على دم الفلسطينيين وحياتهم وقضيتهم بهذه الصفاقة من عند يوسف عزّت، فكل اتفاقيات التطبيع، وخصوصا، وإن لم تكن حصرا، المعاهدة الإبراهيمية، هي تحالف مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، أكان قبل موقعو هذه الاتفاقيات أو لم يقبلوا. لكن، أن يصبح هذا الكلام طبيعيا هو الخطير، فلا مكان هنا ليس للشعب الفلسطيني فحسب، وإنما لا مكان للشعب السوداني أيضا عند هؤلاء الذين سطوا على صوت الكنداكات السودانيات الذي صدح بالحرية قبل ثلاثة أعوام، وباع أحلامهن وأحلام الشعب السوداني، من أجل دعم من دولة الاستيطان العنصري.
هنا نعود إلى تاريخ أقدم للخرق الإسرائيلي للسودان الذي جرى السكوت عنه، فمن صمت على تواطؤ الرئيس الراحل جعفر النميري مع إسرائيل لتهريب يهود إثيوبيا "الفلاشا" لاستغلالهم ككتلة بشرية استيطانية بديلة عن الفلسطينيين، في ما سمّيت عملية موسى عام 1984 فتح الباب لخرق إسرائيلي، بل وإلى تطبيع تحالفي مع إسرائيل، والتذرّع بأنها كانت عملية إنسانية مُدانة، إذ كانت مشاركة مباشرة في عملية التوطين والاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين.
البرهان مدعوم من مصر، وكان ينتظر بفارغ الصبر توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل
ما يحدُث جريمة بشعة بحق الشعب السوداني الذي ذاق الأمرّين؛ من إفقار بلاده الغنية إلى زجّها في حروب أهلية. ومن المهم التأكيد أنه مهما كان موقف الطرفين من إسرائيل، وإن كان كلّ منهما واضحين في التذلل لها، فالأساس أننا أمام مشهدٍ مدمّر ليس له علاقة بمبادئ، فقوات الدعم السريع معروفة بعلاقتها مع المليشيات التابعة لشركة فاغنر الروسية، ومدعومة من الإمارات، والبرهان مدعوم من مصر، وكان ينتظر بفارغ الصبر توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل، فالاتفاق كان مفتاحه لضمان تأييد أميركي إسرائيلي لحكمه، فيما قوات الردع تسعى إلى تأمين تأييد تل أبيب، فإسرائيل أصبحت مصدر الشرعية والوسيط المقبول، وفي ذلك اختزال صادم للواقع العربي، اختزال قد يجعلنا نتحسّر على أيام المتاجرة بالقضية الفلسطينية والمقاومة، وإن كان ذلك مستمرّا وإن كان في تلاشٍ، على الأقل كان التظاهر بدعم القضية الفلسطينية، حقا أو كذبا، سبيل الأنظمة إلى كسب الشعوب وتلميع صورتها، لكن أن يصل إلى منافسة علنية على كسب إسرائيل؛ فهذا حضيضٌ لا قاع له. لكنه لا يقلل من قيمة التضحيات والأبطال، وإنما يزيد من حقارة من "يشحد" السلطة على أبواب واشنطن وتل أبيب ووضاعته. ولكن، وإن كنت أؤمن تماما بكل كلمة أخطُّها، لا كلام ولا تحليلا سياسيا يخفّف من وجع الأمل وقهر الشعوب، فالصراع الجاري يفرّق الإخوة ويشرّد العائلات، ويعصر السودان والسودانيين، وقد صرنا نأمل أن يتوقّف القتال حتى لو كان على أيدي أميركا، وخلفها إسرائيل، وفي هذا اختزال آخر للعجز العربي الرسمي الذي يرهن الشعوب اليائسة لأميركا وإسرائيل.
تبقى بارقة أمل، من أحرار السودان وأحرار فلسطين وأحرار الشعوب العربية، لكن واجب الكاتب تعرية الواقع، والواقع أن صراع السلطة في السودان أضعفنا جميعا، وإن لم يخفُت الأمل كما علّمنا المناضل السوداني، شهيد الحرية عبد الخالق محجوب، والقائد الاستثنائي الشهيد خضر عدنان.