حين لا رهان على الانتخابات اللبنانية
لا يعوّل لبنانيون كثيرون على الانتخابات البرلمانية، التي تكتمل اليوم (15 مايو/ أيار)، لأنهم غير مقتنعين بأن نتائجها ستغير خريطة الأحزاب والقوى المهيمنة على الحياة السياسية في بلدهم، وأنها لن تنهي سيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية، التي أحكم قبضته عليها منذ اجتياحه بيروت في السابع من مايو/ أيار 2008، والأهم أنهم لا يعتقدون أن نتائجها ستصبّ في مصلحة تحسين أحوالهم المعيشية التي وصلت إلى الحضيض، وذلك بعد أن قادت الطبقة السياسية والأوليغارشية لبنان "إلى جهنم" التي بشّر بها رئيسه ميشال عون منذ حوالى عامين. وبالتالي، ليس هناك من يمكنه إقناع عامة اللبنانيين بجدوى التوجّه إلى صناديق الاقتراع، باعتبار أن القاعدة التي باتت سائدة في لبنان، أنْ لا شيء سيتغيّر، سواء خسر تحالف القوى المهيمنة الأكثرية النيابية أو احتفظ بها.
وفي ظل الضغوط واتهامات التخوين والتحشيد الطائفي، إضافة إلى عدم توافر ضمانات أو مؤشّرات على إجراء انتخابات نزيهة وبعيدة عن سطوة النزعة الطائفية، وهيمنة سلاح حزب الله غير الشرعي، فإن السؤال الذي يُطرح يتعلق بما ستحمله هذه الانتخابات، ذلك أن نتائجها، في ظل الأجواء السائدة، ستكون مشابهة لسابقتها التي جرت في 6 مايو/ أيار 2018، وأنه حتى لو حدثت بعض الاختراقات، ستكون محدودة، ولن تؤثر كثيراً بالحياة السياسية في لبنان، لكونها لن تسهم في تغيير عملية صنع القرار، ولا في تغيير الطبقة السياسية، حتى وإن تبدلت بعض الوجوه والشخصيات، فضلاً عن عدم إمكانية مساهمتها في تفكيك سطوة الزعامات الطائفية والعشائرية والمناطقية أيضاً. وبالتالي، ستزداد غطرسة أصحاب السطوة والهيمنة الذين فرضوا على الناخبين قانون انتخاب مفصّلاً على قياسهم، ومخالفاً لجميع قواعد التمثيل الانتخابي النسبي المعروفة في العالم، لكونه لا يعير اهتماماً لتشكيل لوائح منسجمة ذات برنامج واضح يمكن أن يختارها الناخب على أساسه.
وتجري الانتخابات في ظل قانون انتخابي لقيط، يزاوج بين النسبية والصوت التفضيلي، وينهض على جمعٍ متناثر لمواد وبنود، تخدم مصالح تحالفات قوى المحاصصة الطائفية، ولا تكترث بالمواطن اللبناني، لأن المهم بالنسبة إلى واضعيه، وصول بعض الشخصيات إلى مجلس النواب، بصرف النظر عن خبراتهم وقدراتهم واستعدادهم لخدمة الناس والبلد. كذلك فإنها تجري في أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة يعيش لبنان فيها منذ سنوات، ولا تزال تلقي بظلالها على تفاقم الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها معظم اللبنانيين، في ظل انفلات الشارع والارتفاع الجنوني للأسعار وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وسواه من العملات الأجنبية، وأزمات فقدان الدواء والوقود وانقطاع الكهرباء وشحّ المواد الاستهلاكية الضرورية، فضلاً عن تداعيات جائحة كورونا وسواها.
لا يهمّ الطبقة السلطوية والأوليغارشية القابضة على مقدّرات الدولة اللبنانية تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية، ما دامت تخدم مصالحها
في المقابل، لا يهمّ الطبقة السلطوية والأوليغارشية القابضة على مقدّرات الدولة اللبنانية تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية، ما دامت تخدم مصالحها، وأكثر ما يهمها ينحصر في إجراء انتخابات مفصلةٍ على مقاسها وفق قانون انتخابي يعمل على تفتيت كلّ المكونات اللبنانية من دون أن يؤثّر سلباً في تجديد سطوتها، وفي بقائها متحكّمة بمفاصل النظام والقضاء والمؤسسات البيروقراطية، بغية زيادة مراكمة ثروتها، لأن ما يهمها من الانتخابات أن تحمل نتائجها ما يضمن حماية امتيازاتها ومصالحها المالية والتجارية، والإبقاء على أزلامها والمليشيات التي تنفذ أجنداتها، وتستخدمها وقوداً للدفاع عن نفوذها ومصالحها، ولإثارة مختلف النعرات والعصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية.
قد تشكل الانتخابات النيابية اللبنانية فرصة للتغيير، بالرغم من قتامة المشهد، من خلال التصويت العقابي ضد من يقود لبنان إلى جهنم، لكنها أيضاً قد تشكّل بداية فصل جديد من فصول الأزمة اللبنانية، من خلال التصويت لإعادة تجديد الطبقة السياسية المهيمنة، وبمختلف تشكيلاتها الحزبية والطائفية، وربما بغالبية وجوهها السابقة. وبالتالي، ستشكل فرصة ضياع الآمال التي حملتها انتفاضة 17 تشرين الأول (2019)، وتبديد الأوهام بإمكانية الخروج من المأزق الراهن، والتغيير نحو المواطنة ودولة المواطنين، وذلك لأن قوى التغيير التي تشكلت في مجموعات وحركات وأحزاب ناشئة، مثل "طلعت ريحتكم" و"بيروت مدينتي" و"لبلدي" و"سبعة" و"لي حقي" و"لقاء تشرين"، تتسم بالضعف والانقسام، ويصعب التعويل عليها في تقديم مقارباتٍ وشخصياتٍ مؤهلةٍ لقيادة عملية التغيير المنشودة، فضلاً عن افتقادها الوعي المطلوب لبناء تفاهمات واقعية من أجل قيادة التغيير وحماية نفسها من الانقسامات، وامتلاك القدرة على الوقوف في وجه طبقة سياسية مهيمنة ومتمرّسة في إجهاض الحراك الاحتجاجي والمطلبي وركوب المدّ الشعبي، وتمتلك كل الوسائل اللازمة من أجل حرفه عن مساره، وهو ما فعلته في أكثر من مناسبة، وبقيت محتفظة بمواقعها في السلطة.
أهم تجسيدات الأزمة البنيوية في لبنان، أن ساسته كان همّهم الأساسي ينحصر في العمل على بناء نموذج دولة طائفية، لا نموذج دولة مواطنة
ويبدو أن المجتمع الدولي غير مكترث بالانتخابات اللبنانية، والأرجح أنها لن تكترث أيضاً بنتائجها. كذلك فإن الاهتمام العربي غائب أيضاً، نظراً إلى تدهور علاقات لبنان بأغلب دول الخليج العربي التي كانت تدعمه وترعاه وتمنع انهياره، وذلك على حساب تغوّل حزب الله في شدّ لبنان نحو المحور الإيراني، وجعله ساحة للمواجهتين، الإقليمية والدولية، لكونه الحزب الوحيد الحائز للسلاح، ما جعله أقوى من الدولة ومهيمناً عليها، حتى بات وحده صاحب قرار الحرب والسلم في لبنان، يُصدره متى يحلو له، أو بالأحرى عندما يطلب منه الولي الفقيه في طهران.
ولعل أهم تجسيدات الأزمة البنيوية في لبنان، أن ساسته كان همّهم الأساسي ينحصر في العمل على بناء نموذج دولة طائفية، لا نموذج دولة مواطنة، فأصبحت دولته ضعيفةً ومستلبة، ولا تسيطر، في أحسن الأحوال، على ربع مساحة لبنان، وتمتلك جيشاً ضعيفاً، مقارنةً بحزب الله، إلى جانب امتلاكها مصرف لبنان المركزي وشركات كهرباء وطيران، إلى جانب وجود اقتصادات مليشياوية، واستشراء النهب والفساد المعمّم والتهريب، وغياب الرقابة والشفافية وتعطيل القضاء وسوى ذلك كثير، وبالتالي تتزايد معضلات لبنان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتطحن رحاها الفئات الفقيرة والوسطى التي لا تجد مهرباً سوى ركوب قوارب الموت. لذلك، يصعب الرهان على ما قد تحمله نتائج الانتخابات النيابية، ويصعب معه تصور حدوث تبدلات جذرية في التركيبة النيابية.