خداع الوثائق والوقائع الصينية الروسية
بالاستعانة بقاموس مفردات الصدمة والمفاجأة، نشرت وسائل إعلام عربية عديدة (1 مارس/ آذار 2024)، نقلاً عن "فاينانشال تايمز" البريطانية محتوى ما يوصف بأنه وثائق عسكرية روسية مسرّبة، وتكشف الوثائق عن شبح مواجهة عسكرية روسية/ صينية يسكن عقل النخبة العسكرية الروسية!
بحسب ما نُشِر، أجرت موسكو تدريباتٍ على سيناريو "غزو صيني افتراضي" لأقصى شرق البلاد، ما يشير إلى مخاوف موسكو منذ فترة طويلة بشأن بكّين، وفق صحيفة "فاينانشال تايمز". وشملت التدريبات العسكرية الروسية "اشتباكاتٍ بين حشود غاضبة وقوات الشرطة في مدن روسية شرقية"، بينما تتهم جارتها بـ "التطهير العرقي". تعود سيناريوهات الحرب إلى ما بين 2008 و2014، وتكشف عن مخاوف روسية قديمة بشأن نيّات بكّين الحقيقية، أدّت إلى سنوات من التدريبات على غزو صيني محتمل.
وأهمية الوثائق لا تكمن في ما كشفت عنه من "احتمالات"، بل في تقديمها رؤية واضحة لطريقة تفكير الجيش الروسي في التهديد الذي يمكن أن يأتي من العملاق الصيني. وفي أحد السيناريوهات الواردة في الوثائق "تدفع الصين أموالاً لمحتجين مزيفين للاشتباك مع قوات الشرطة في أقصى شرق روسيا"، وبمجرد وصول التوترات إلى نقطة الغليان، تزيد بكّين إنتاجها الدفاعي، وتتهم روسيا بارتكاب "إبادة جماعية". وبين 2008 و2014 أجرت روسيا مناوراتٍ عسكرية منتظمة لمواجهة خطر عسكري صيني، وآنذاك نشرت منظومات أسلحة جديدة عدة في أقصى شرق البلاد أولاً، رغم تأكيد روسيا الدائم أن حلف الناتو هو التهديد الرئيس لها، وأن الصين شريك.
الجانب الأخطر في المخاوف الروسية بُعدها الديمغرافي، وفي الفترة المشار إليها، وبالتحديد في 2008 ألقى الرئيس الروسي، بوتين، خطاباً ذا أهميّة استثنائية حذّر فيه بشدّة من خطر "قلة السكان" على روسيا، واحتمال أن تشجّع على التفكير في غزو شرق البلاد الفقيرة سكّانياً الغنية بالموارد، في إشارة إلى احتمال أن تستغلّ الصين "نقاط ضعفها". وشهد عام 1969 مواجهة عسكرية بينهما. وقد عادت أشباح المخاوف الروسية من الصين في تسعينيات القرن الماضي، عندما واجهت روسيا الضعيفة آنذاك صعود الصين. وتحدّثت وثائق عن مخاوف من هجماتٍ صينيةٍ عبر كازاخستان، وفي تدريبات عدة في 2008 كان هدف القوات الغازية السيطرة على أقصى شرق روسيا. وتخشى النخبة العسكرية الروسية من أن الصين ربما تريد توسيع رقعتها الجغرافية لاستيعاب سكانها، فضلاً عن الحصول على موارد. وهناك من يرى أن تدريباتٍ روسية نووية قرب الحدود الصينية أخيراً تفيد بأن الجيش الروسي لا يزال يتدرّب على صراع محتمل ربما كان نوويّاً. والمتحدّث باسم الرئيس الروسي شكّك بشدّة في صحة الوثائق المسرّبة، مع تأكيد أن نظرية التهديد هذه لم يعد لها مكان في بكين أو موسكو.
الوثائق المسرّبة على الأرجح لعبة استخباراتية انتقائية استخدمت "حقائق صغيرة"، لتمرير "مؤامرة كبيرة"
مفارقات العلاقات الصينية - الروسية كانت موضوع أكثر من مقال نشرته في "العربي الجديد" ("حقبة صداقات الأعدقاء"، 17/6/2021، "وهم التحالف الروسي/ الصيني"، 11 /2/ 2022). وفي خضم سيل من الكتابات التي بشّرت بتحالف صيني/ روسي رجَّحتُ أن هذا التعبير مضلّل، لأن "شراكة القيم" أول مؤهّلات نجاح التحالفات وديمومتها، وهو ما لا ينطبق على الإطلاق على العلاقات بين البلدين. والتقارب الكبير بين البلدين سلوكٌ براغماتي دفع إليه عداؤهما لعدو مشترك: "الغرب"، والتقارب لا يدوم على قاعدة "عدو عدوي صديقي".
ومع كل أزمة كبيرة في علاقات مثلث: واشنطن/ بكين/ موسكو كان كثيرون يتوقّعون نشوء تحالف صيني/ روسي يعيد العالم إلى حالة الثنائية القطبية، أو يؤسّس نظاماً عالمياً جديداً متعدّد الأقطاب. وتحت عنوان: "وهم التحالف الروسي/ الصيني" كتب المفكر الأميركي جورج فريدمان مقالاً (جيوبوليتيكال فيوتشرز، نوفمبر/ تشرين الثاني 2018)، يقدّم تقييماً يبدو موضوعيّاً للفكرة وممكناتها المستقبلية، معتبراً هذا التحالف "مجرّد وهم".
ومن القراءات المثيرة لممكنات تطوّر التعقيدات التي تسبّبت فيها الحرب الروسية/ الأوكرانية أن تؤدي هزيمة عسكرية روسية إلى اجتياح عسكري صيني لشرقها بسبب قلة سكانه ووفرة موارده. والعلاقات الصينية/ الروسية (مرحليّاً) ليست مرشّحة لحرب محتملة، وعلاقات البلدين حافلة بالمفارقات، والوقائع قد "تخدع"، وكذلك الوثائق. والوثائق المسرّبة على الأرجح لعبة استخباراتية انتقائية استخدمت "حقائق صغيرة"، لتمرير "مؤامرة كبيرة"، ولمثل هذا صكّ خبراء إعلام غربيون مصطلح "الأكاذيب الصادقة"!