خطة بايدن ونهاية النيوليبرالية الجديدة
في أكبر إعلانٍ صادر عنه، منذ تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، كشف جو بايدن، في الأسبوع الثاني من شهر مارس/ آذار الجاري، عن برنامجه الاقتصادي لمكافحة آثار وباء كورونا، وحملت خطته التحفيزية اسم "خطة الإنقاذ الأميركية"، وهي حزمة مساعدات ضخمة حجمها 1900 مليار دولار، تتضمن صرف شيكات سخية للأفراد والأسر الأميركية ذات الدخل المحدود، وصرف تعويضات للعاطلين من العمل، وإعفاءات ضريبية كبيرة للأسر الأميركية التي لديها أطفال، بغض النظر عن دخولها، ودعما سخيا لدور الحضانة والمدارس والجامعات، ومساعدات للمشاريع الصغيرة، خصوصا تلك التي تضرّرت من الأزمة. ويكفي فقط أن نعرف أن 400 مليار دولار من مجموع هذه المساعدات ستذهب لدعم الإنفاق الاستهلاكي، ما سيُحدث انتعاشا كبيرا داخل أكبر سوق استهلاكية في العالم.
تأتي هذه الخطة في سياق عالمي طبعه وباء كورونا وآثاره المدمرة على الاقتصاد العالمي. وعلى المستوى الأميركي، كشفت الجائحة عن الهوّة الكبيرة الموجودة داخل المجتمع الأميركي ما بين الفقراء والأغنياء، وعدم المساواة الاجتماعية. وكان من نتائج الركود الاقتصادي العالمي المفاجئ في ربيع عام 2020، تفاقم الفقر الذي تسبب، في بعض الأحيان، بأزمة جوع تضرّر منها نحو 42 مليون شخص، أغلبهم من الأميركيين السود واللاتينيين.
النيوليبرالية الجديدة تحوّلت إلى إيديولوجية اقتصادية متوحشة، بل وحتى استبدادية
وتهدف هذه الخطة الضخمة التي وافق عليها الكونغرس إلى إحداث تغيير جذري في السياسة الاجتماعية في الولايات المتحدة، يتوقع أن تخفّض عدد الأميركيين الذين يعيشون في الفقر بمقدار الثلث، وتخفض من عدد الأطفال الفقراء بمقدار النصف تقريبًا. بالإضافة إلى آثارها على نمو الاقتصاد الذي يتوقع خبراء أن يحقق نسبة نمو لا تقل عن 7%. وبعيدا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الخطة، يرى أصحابها فيها استثمارا في المستقبل، بما أنها تحفّز مجموعة من النتائج الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل.
نحن إذن أمام خطة تاريخية لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من حالة الركود التي تسببت فيه الجائحة، وهو ما دفع الصحافة الأميركية إلى تشبيهها بخطة "النيوديل" التي تبنّاها الرئيس فرانكلين روزفلت، لمعالجة الاختلالات التي نجمت عن "الكساد الكبير" بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 1929. لكنها في الوقت نفسه تمثل انعطافة كبيرة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية الأميركية تضع نهاية لأربعة عقود من "الريغانية"، كما كتبت صحيفة الغارديان البريطانية، وهو ما جعل محللين اقتصاديين يتحدثون عن بداية نهاية النيوليبرالية الجديدة التي كان منظّروها يعتقدون، عام 1989، عند سقوط جدار برلين، أن من شأن الانفتاح على السوق الرأسمالية العالمية أن يعزّز التغيير الديمقراطي الليبرالي في العالم، لكن النتيجة كما نراها اليوم أن النيوليبرالية الجديدة تحوّلت إلى إيديولوجية اقتصادية متوحشة، بل وحتى استبدادية.
لقد أبان النموذج النيوليبرالي الجديد، الذي تأسس في عهد الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغان، وتعزز في العقود التي تلت هزيمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، بشكل واضح، أنه غير قادر على أداء الوظائف الأساسية للحكم: حماية الأرواح وتأمين سبل العيش للناس. قام على استهداف الخدمات العامة وخصخصتها، وأهمل الرعاية والخدمات الاجتماعية، ما أدى إلى تآكلها بشكل سريع وعنيف. وفي المقابل، تم تخفيض الضرائب على الأثرياء، بدعوى إطلاق العنان لإمكانات الاستثمار المفترضة. وهكذا تم إضعاف النقابات، وانتُزعت سلطة التحكم في المالية العامة تدريجياً من الهيئات الديمقراطية المنتخبة لتُمنح إلى محافظي البنوك المركزية غير المنتخبين الذين كان همهم وما زال منصبّا على المحافظة على التوازنات الماكرو اقتصادية.
انعطاف تاريخي كبير يتمثل في التحوّل في مزاج الشعب الأميركي الذي بدأ يتقبل سماع كلمات الاشتراكية وعدم المساواة
وحتى قبل جائحة كورونا، كانت النيوليبرالية الجديدة قد بدأت تُظهر تصدّعات كبيرة في بنيتها، وأخذت سياستها التي تقوم على جرف الأموال نحو القمة على حساب القاع تتفكّك لتفسح المجال لرغبةٍ جديدةٍ من الحكومات في إنفاق الأموال لفائدة السكان والاقتصاد بشكل مباشر. وجاءت الجائحة بكل مآسيها لتؤكد أن هذا النموذج أثبت فشله، بعد أن قاد العالم إلى حافة الانهيار، وخطة الإنقاذ الأميركية هي أحدث دليل صارخ على هذا الفشل الذريع الذي دفع الدولة إلى التدخل من أجل إعادة بناء مجتمع قائم على التضامن والقيم الإنسانية واحترام الطبيعة. وهذا التحوّل لم يأت فقط نتيجة قراءة متأنية للواقع من السياسيين، وإنما هو حصيلة سيرورة من النضالات الطويلة التي خاضها الشعب الأميركي ضد مؤسساته السياسية والمالية منذ الأزمة الاقتصادية 2008 - 2009 وحتى قبل ذلك. لقد أدّت حركة احتلوا وول ستريت عام 2011، واحتجاجات "حياة السود مهمة" عام 2020، إلى توسيع وحدة الشعب الأميركي الذي كان في الشوارع يحتجّ على سياسات النيولبراليين الجدد التي أبانت عن جشعها في عهد ترامب، وجاءت أزمة كورونا لتعرّي زيفها ونفاقها.
نحن أمام انعطاف تاريخي كبير يتمثل في التحوّل في مزاج الشعب الأميركي الذي بدأ يتقبل سماع كلمات الاشتراكية وعدم المساواة. وهذا انتصار كبير لليسار الأميركي الذي نجح في فرض وجهة نظره في سنّ بعض السياسات الداخلية، وما زال أمامه الكثير لفرض وجهة نظره فيما يتعلق بتغيير سياسات أميركا الخارجية، وهذا أكبر اختبار ينتظر ممثلي هذا اليسار داخل الإدارة الحالية الذين عليهم التحرّك بحذر، ولكن بإصرار، من أجل إعادة بناء أميركا الجديدة، متصالحة مع قيمها الكبرى، كما وضعها الآباء المؤسّسون لأكبر ديمقراطية في العالم.