دايفيد كاميرون ودومينيك دو فيلبان (2)
تتوفّر في الإعلام الإسرائيلي هذه الأيام مساحة نقدية للحرب على غزة ولحكومة بنيامين نتنياهو عموماً أكثر مما تجدها في الإعلام الفرنسي. كلام لا يُقال على سبيل الاستعارة أو التعبير المجازي، بل هو واقع أفردت له مجلة لوموند ديبلوماتيك حيّزاً وفيراً في عددها الصادر أخيراً (نوفمبر/ تشرين الثاني) لإثباته بالأمثلة الغزيرة. لكن أجواء إعلامية مسمومة وتزويرية إلى هذه الدرجة لا تحول دون سماع أصوات نقدية للجريمة الإسرائيلية الممتدة، كصوت رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق (2005 - 2007)، دومينيك دو فيلبان. وسائل إعلام عديدة استضافت الرجل في الأيام والأسابيع الماضية، لكن ما قاله في حوار مع إذاعة فرانس إنفو الحكومية ربما كان الأوضح. وقبل استعراض بعض مقتطفات مقابلته تلك بتصرّف، مع محاولة تفادي الوقوع في فخ الاجتزاء وإخراج الكلام من سياقه، وجب الإبقاء في البال أن الرجل، كحال دايفيد كاميرون، مسؤول أوروبي سابق رفيع المستوى (رئيس وزراء) في دولة حليفة جداً جداً لإسرائيل، وصانعة سلاحها الذري، وفرد أصيل في عائلة تعتبر إسرائيل ابناً مدللاً. وجب عدم إغفال أن دو فيلبان يميني و"صديق لإسرائيل"، أي أننا لسنا بصدد ثائر يتلو آيات محاربة الأبارتهايد والاستعمار كلما فتح عينيه صباحاً.
بعض مما يقوله الرجل في المقابلة المذكورة إنه "لا القوة ولا الثأر يمكنهما توفير الأمن للإسرائيليين، وهذا ما يجب أن يفهمه المسؤولون الإسرائيليون، بل ما يؤمّن الحماية والسلام هو العدالة الغائبة عن برنامج الحكومة الإسرائيلية التي تعتمد منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول سياسة وحيدة هي المزايدة في القوة". ويحاجج دو فيلبان الرواية الإسرائيلية التي تفيد بأن ما تفعله هو استهداف للإرهابيين (مسلحي حماس) وأن المدنيين الذين يسقطون نتيجة هذا الاستهداف هم "ضحايا هامشيون"، بينما هم ليسوا في الحقيقة كذلك بحسب دو فيلبان، أي أنهم ضحايا تقتلهم إسرائيل عن تصميم وبقصد. وعن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها الذي يقرّ به المسؤول الفرنسي السابق، فإنه ينبه إلى أن هذا "الحقّ" ليس مطلقاً ولا متفلتاً من القيود ولا يشمل بأي شكل قتل المدنيين. حتى أنه يشير إلى أن استهداف الأطفال والمدنيين عموماً يولّد "إرهابيين" إضافيين، أي أن إسرائيل ستحصد تماماً عكس ما ترغب به. حرب يرى دو فيلبان أنها في حال لم تتوقّف بأمر أميركي وأوروبي، فإنها ستؤدي بنا إلى حرب حضارات ينظّر لها نتنياهو بحديثه عن "معركة أبناء الأنوار ضد أبناء الظلمة". وعن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، يرى دو فيلبان حاجة ملحة للإفراج عنهم "لكن من دون أن ننسى أن الشعب الفلسطيني بكامله يقع في الأسر". ونتنياهو بحسب دو فيلبان، يقود حرباً من أجل ألا يأتي يوم يُطرح فيه الحل السياسي على الطاولة، حل لا يراه المسؤول الفرنسي إلا في دولة فلسطينية كاملة وقابلة للحياة ومتصلة جغرافياً على كامل حدود يونيو/ حزيران 1967 من دون وجود أي مستوطن فيها، لا في الضفة الغربية ولا في القدس الشرقية، وهؤلاء يجب أن يغادروا ببساطة، تماماً مثلما غادر مليون مستوطن فرنسي الجزائر بعد الاستقلال، والكلام لرئيس الوزراء الفرنسي السابق وسط ذهول ساذج لمحاورَيه لدى قوله بديهية كهذه. يطرح دو فيلبان أولوية على أجندة المجتمع الدولي حالياً تقضي بمنع نتنياهو من مواصلة ترجمة "منطقه الانتحاري الذي سيؤدي إلى وقوع إسرائيل تحت الحصار"، لأن "تطبيع العلاقات مع السعودية ومع بلدان عربية أخرى لن ينفع في محو ما يحصل حالياً، فجراح التاريخ لا تندمل".
في عالم بلغ فيه الانحدار ما بلغه، إنسانياً واخلاقياً، يصبح قول كلام "عادي" كهذا وكأنه فعل ثوري مع أن لا شيء ثورياً فيه، بل مجرّد وصف موضوعي لما يفترض أن يكون وعياً يدركه أبسط تلميذ مدرسة في مستوى ابتدائي. في أحوال بائسة كالتي تستوطن عالمنا اليوم، لم يعد المرء يتمنّى أكثر من رؤية مسؤولين من طراز دايفيد كاميرون ودومينيك دو فيلبان، مسؤولين محترمين فحسب، لا شيء أكثر من ذلك.