درس ثورة السودان
خلال ما مرّ من عمر "الربيع العربي"، كان السودان حالة تحوّلت فيها "الثورة" عند بعضهم من وسيلة لإنجاز تغيير سياسي، إلى "دوغما"، إما أن تحقق كل شيء، أو تستمر مشتعلة إلى أجلٍ شروطه مجهولة. على الرغم من أن انقلاب قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، كان انحيازاً واضحاً إلى "الثورة المضادّة"، إلا أن المعركة التي أشعلها انقلابه كانت درساً في الكيفية التي يمكن أن تتحوّل "الثورة" فيها من وسيلةٍ إلى منظورٍ للرؤية. ولعل أحد أهم عبر مآل ثورات الربيع العربي في سورية ومصر وتونس وليبيا، أن الفعل الثوري يفتح الباب لـ "إمكانية" التغيير، لكن تحوّل هذا الإمكان إلى واقعٍ يظل مرهوناً بشروط موضوعية: داخلية وإقليمية ودولية، قد يسبّب غيابها، أو العجز عن إدراك تناقضاتها المعقدة، انتصار "الثورة المضادّة".
وخلال الأيام القليلة الماضية، كان هناك، للمرة الأولى، موقف دولي أكثر وضوحاً يساند مساراً يثمر ميلاد "الحكم المدني" في السودان. وردّ فعل بعض الأطراف على الساحة السودانية على الاتفاق السياسي الذي وقّعه البرهان ورئيس الوزراء المعزول العائد، عبد الله حمدوك، في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، كان انعكاساً لهذه الإشكالية المتعلقة بتحول التغيير إلى صراع صفري بين "المدنّس" و"المقدس". والأوصاف القاسية التي استخدمت في خطاب معارضي الاتفاق مشبعة بالأحكام الحدّية التي لا تخلو من التنكّر لتحالف استمر فترة ليست قصيرة، والإصرار على أن "الإقصاء العكسي" هو الحل الفوري. واستدعاء المقابلة القائمة على التنافي التام بين المتعارضات ينجم عنه مسار حرقٍ منظّم لمقدّرات الثورة، فالاتفاق ليس لحظة انتصار الثورة، بل لحظة يمكن أن تكون مفترق إنقاذ الثورة السودانية من مسار استئصالٍ يشبه تجارب سابقة في مسار إجهاض ثورات الربيع العربي.
ليس من المبالغة القول إن "الإدراك" قد يكون أحد أهم المدخلات التي تؤثر بمصير الثورات
وفي موقف تملك فيه جبهة الانقلابيين من الدعم الإقليمي ما كان يمكن أن يطيل عمر المسار الانقلابي، فإن استعادة المسار الانتقالي، بحد ذاته، انتصار يتجاوز حدود "الرمزي"، لكن رافضي الاتفاق، بعد قليلٍ من إعلانه، قرّروا التنصّل منه، ومن رئيس الوزراء العائد إلى منصبه بموجبه، على الرغم من أنه قد يكون في أمسّ الحاجة إلى داعم سياسي "مدني" قوي خلال المرحلة المقبلة. والقناعة بأن الاتفاق لا يحقق كل المطلوب، لا تعني أن موقّعيه ارتكبوا جرم "الخيانة"، وربما كان الأجدى أن يعتمد معارضو الاتفاق قاعدة: "خذ وطالب".
ولقد أثبتت تجارب التحوّل الديموقراطي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، أن الثورات لا يمكن إنتاجها "معملياً" في شكل "الخام النقي"، فهي في الداخل تحدُث في "الشارع"، وهو فضاءٌ مفتوح، وارتداداتها على الخارج تدفع المنتفعين والمتضرّرين على السواء إلى السعي إلى التأثير في مسارها، وإن أمكن إمساك لجامها والتحكّم التام في مآلها!
الفعل الثوري يفتح الباب لـ "إمكانية" التغيير، لكن تحوّل هذا الإمكان إلى واقعٍ مرهون بشروط موضوعية
وعليه، ليس من المبالغة القول إن "الإدراك" قد يكون أحد أهم المدخلات التي تؤثر بمصير الثورات، وقديماً وضع علماء أصول الفقه في الإسلام القاعدة الذهبية: "الحكم على الشيء، فرعٌ عن تصوُّره". والإدراك هنا مركّبٌ يشمل: الأهداف والوسائل وخرائط المحفّزات والمعيقات، والعلاقة المعقدة بين الأهداف والوسائل، وما يمكن أن يكون "هدفاً واقعياً" في مرحلةٍ ما، من دون التخلي عن هدف التغيير الجذري الشامل هدفاً نهائياً. وقد يكون الهدف "نهائياً"، ولا يكون بالضرورة هدفاً "آنياً"، فالثورات ليست دائماً تطبيقاً للتعبير الأميركي الشهير: "الآن وهنا".
وعلى المستوى المعرفي، يمكن اعتبار أحد أصول هذا الداء، إدراك العالم عبر العبارات البليغة. وهذا الإدراك يُعرِّض الأفراد والجماعات لخطر خوض معارك صفرية، تتحول فيها القناعات، من دون تمييز ولا تصنيف، إلى مقدّسات، إذ تلت ذلك غالباً مرحلةٌ يصبح فيها ما هو خارج "حزمة المقدّسات" مستحقاً وصف: "المدنّس". وعلى الرغم من أن المألوف أن تجري مفردات قاموس خطاب "المدنّس" و"المقدّس" على ألسنة الجماعات ذات المرجعية الدينية، فإن تجربة العصر الحديث، وبخاصة منذ بداية القرن العشرين، حافلةٌ بالحركات الأيديولوجية التي ترى العالم كله من ثقب الانقسام الحادّ بين "المدنّس" و"المقدّس"، من الصراعات داخل الحزب الشيوعي السوفييتي، إلى الصراعات الأكثر حدّة داخل الحركة الشيوعية الدولية، وعلى نحوٍ مشابهٍ خاض الزعيم النازي هتلر معاركه المدمّرة لأسبابٍ في مقدّمتها حتمية الصراع الجذري بين "العِـرق المقدّس" و"الأجناس المدنسة".
وقاتلةٌ هي لعبة اختصار السياسة بين "مقدّس" و"مدنّس".