26 سبتمبر 2014
درس من غزة
الموت أفضل من بعض الحياة.. تلك فلسفة صديقي الذي تركني، مباشرة بعد مباراةٍ لفريقه المفضّل لكرة القدم، "المانشافت الألماني"، قبل نحو عامين، لأسمع بعدها أنه قضى في عمليةٍ لتنظيم القاعدة في شمال مالي، وهو يقاتل ضد الفرنسيين!
لم يكن منتمياً، كما عرفته، لفكر تنظيم القاعدة، ولا متماهياً مع نظرتها إلى الجهاد والموت، في سبيلٍ تراه هي سبيل الله.
كان صديقي، ببساطة، شاباً مؤمناً وسطياً، مقبلاً على الحياة، عاشقاً للمغامرة فيها من أجل عيش كريم. في لحظةٍ ما، شعر بأن الكرامة التي كافح طويلاً من أجل أن ينالها، والعيش في مكان سعى إليه كثيراً، يستطيع فيه احتضان ابنه بتقدير واحترام طبيعي، لم يتحققا، بل العكس، تلقى صديقي ازدراء بعضهم وسخريتهم، لأنه لم يستطع، على الرغم من اقترابه من سن الأربعين، أن يكون ذا مالٍ، أو جاه، أو نفعٍ خاص لأهله. أصبح صديقي بين عشيةٍ وضحاها محكوماً عليه بإعدام معنويٍّ، يسلبه كل إحساس بكرامته ورجولته، وبقدرته على التعايش مع محيطه وأحبائه.
عند ذلك، قرر صديقي أن يغامر من جديد، لكن، ليموت بشكلٍ يراه محترماً وفاجعاً ومثيراً لأسئلةٍ كثيرة عن معنى الحياة، أو الموت بكرامة!
الآن، وبعد عامين على تأمل حال صديقي، ها فلسفته تلك في الموت والحياة الكريمة تضعنا، في هذه الأيام، في مواجهة سؤال غاضبٍ حائرٍ إلى حد التعجب الحانق: هل ماتت حقاً نخوة حكام العرب والمسلمين وكرامتهم، وهم يشاهدون موت أطفال غزة وشيوخها ونسائها، في عدوانٍ على منازلهم بالقصف الذي يرتكبه الصهاينة حالياً؟
يبدو السؤال مكرراً بشكلٍ يثير الملل حقاً، غير أنه لا يستأذننا للطفو فوق بحيرة وعينا، ونحن نشاهد، كشعوب، ومن موقف العاجز المتألم، الطفل الفلسطيني وهو يبكي وسط الموت والدمار الذي أُجبر على معايشته، على الرغم من عمره الذي لا يتعدّى أياماً وأشهراً، في حالة بعض شهداء القصف الصهيوني!
صمتُ "الحاكمين رقاب الناس"، قاتلٌ للكرامة، ولواجب النصرة الديني، ولأعراف التضامن الإنساني، ويتضاعف الإحساس بالغضب، لبرودهم وموت ضمائرهم، ليتحول إلى إحساسٍ بالشفقة علينا، وعليهم، حين نشاهد مجلس الشيوخ في تشيلي وهو يقف لدقيقة، حداداً على أرواح الضحايا في غزة.
حينذاك، سيستدعي بعضنا موت صديقي ذاك الذي ظن أن فوهات الموت التي تتيحها القاعدة وداعش، وغيرها من التنظيمات المتطرفة، بديل فقدان الحياة بكرامة. وبذلك، تغدو داعش، إذن، (كأحدث نسخة من التنظيمات المقاتلة المتطرفة) صنيعة مواقف أليمة شاذة لحكامنا. ليست داعش، والقاعدة من قبلها، إذن، سوى الوجه الآخر لما يعنيه انقلاب بعض جنرالات عسكرنا على السلطة، ثم شعور هؤلاء أن تدمير غزة على "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية ضامن لأمنهم واستقرارهم في السلطة، وتطالب بياناتهم بالتزام ضبط النفس من الجانبين، ثم تعلو فيها بوضوح نبرة اتهامٍ تتغذى من الخلاف الأيديولوجي مع حماس، "الإخوانية"، لتتهمها بأنها المسؤولة عمّا يحدث لغزة من مذابح تستهدف المدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ.
تنامى الحقد والعداء السياسي الأيديولوجي في نفوس أولئك الحاكمين العسكر، فقتل كل النوازع الإنسانية تقريباً لديهم، وأحيا من "مرقده" ذلك الكنز الاستراتيجي الذي تباكت عليه إسرائيل، حين سقط نظام المخلوع حسني مبارك، بعد انتفاضة الملايين الحرة من الشعب العربي. ويتفاقم الإحساس بالموت المحيط بنا في مَن يحكموننا، حين نرى العدوان، من زاوية المراقب، وبشكلٍ يكاد يكون جلياً مشروعاً متكاملاً بأطراف عربية (أو هكذا تسمى اصطلاحاً!) لمحو "حماس" من خريطة الوجود السياسي في قطاع غزة، وفي فلسطين كلها، استمراراً، في ما يبدو، لهوس القضاء على كل ما هو إخواني.
وتبدو الظروف الدولية والإقليمية مهيأة لنجاح ذلك القتل الممنهج. لذلك، لا نرى، ولا نسمع، إلا الإدانات التي ألفناها ممّن لا شيء لديهم يقدمونه، الصامتين على العدوان على مَن يظنونه عدواً لهم في غزة.
لكن، ما لا يراه العسكر من الحكام العرب، أنه بات واضحاً جداً أن امتلاك التاريخ والسيطرة على مستقبل اللحظة وهم كبير، عاش فيه قبلهم ظالمون كثيرون.
ما لا يراه حكامنا وعسكرنا الانقلابيون أن غزة والضفة والقدس سيعلّموننا أشياء جديدة، مفاجئة، أقوى وأكثر إشراقاً من الاستسلام للمصير والموت النمطي الذي يدفعوننا إليه. غزة تعلّمنا أن موتنا ينبغي أن يكون على طريقتها هي في الحياة: باعتدال ونضال من أجل الحياة.
لم يكن منتمياً، كما عرفته، لفكر تنظيم القاعدة، ولا متماهياً مع نظرتها إلى الجهاد والموت، في سبيلٍ تراه هي سبيل الله.
كان صديقي، ببساطة، شاباً مؤمناً وسطياً، مقبلاً على الحياة، عاشقاً للمغامرة فيها من أجل عيش كريم. في لحظةٍ ما، شعر بأن الكرامة التي كافح طويلاً من أجل أن ينالها، والعيش في مكان سعى إليه كثيراً، يستطيع فيه احتضان ابنه بتقدير واحترام طبيعي، لم يتحققا، بل العكس، تلقى صديقي ازدراء بعضهم وسخريتهم، لأنه لم يستطع، على الرغم من اقترابه من سن الأربعين، أن يكون ذا مالٍ، أو جاه، أو نفعٍ خاص لأهله. أصبح صديقي بين عشيةٍ وضحاها محكوماً عليه بإعدام معنويٍّ، يسلبه كل إحساس بكرامته ورجولته، وبقدرته على التعايش مع محيطه وأحبائه.
عند ذلك، قرر صديقي أن يغامر من جديد، لكن، ليموت بشكلٍ يراه محترماً وفاجعاً ومثيراً لأسئلةٍ كثيرة عن معنى الحياة، أو الموت بكرامة!
الآن، وبعد عامين على تأمل حال صديقي، ها فلسفته تلك في الموت والحياة الكريمة تضعنا، في هذه الأيام، في مواجهة سؤال غاضبٍ حائرٍ إلى حد التعجب الحانق: هل ماتت حقاً نخوة حكام العرب والمسلمين وكرامتهم، وهم يشاهدون موت أطفال غزة وشيوخها ونسائها، في عدوانٍ على منازلهم بالقصف الذي يرتكبه الصهاينة حالياً؟
يبدو السؤال مكرراً بشكلٍ يثير الملل حقاً، غير أنه لا يستأذننا للطفو فوق بحيرة وعينا، ونحن نشاهد، كشعوب، ومن موقف العاجز المتألم، الطفل الفلسطيني وهو يبكي وسط الموت والدمار الذي أُجبر على معايشته، على الرغم من عمره الذي لا يتعدّى أياماً وأشهراً، في حالة بعض شهداء القصف الصهيوني!
صمتُ "الحاكمين رقاب الناس"، قاتلٌ للكرامة، ولواجب النصرة الديني، ولأعراف التضامن الإنساني، ويتضاعف الإحساس بالغضب، لبرودهم وموت ضمائرهم، ليتحول إلى إحساسٍ بالشفقة علينا، وعليهم، حين نشاهد مجلس الشيوخ في تشيلي وهو يقف لدقيقة، حداداً على أرواح الضحايا في غزة.
حينذاك، سيستدعي بعضنا موت صديقي ذاك الذي ظن أن فوهات الموت التي تتيحها القاعدة وداعش، وغيرها من التنظيمات المتطرفة، بديل فقدان الحياة بكرامة. وبذلك، تغدو داعش، إذن، (كأحدث نسخة من التنظيمات المقاتلة المتطرفة) صنيعة مواقف أليمة شاذة لحكامنا. ليست داعش، والقاعدة من قبلها، إذن، سوى الوجه الآخر لما يعنيه انقلاب بعض جنرالات عسكرنا على السلطة، ثم شعور هؤلاء أن تدمير غزة على "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية ضامن لأمنهم واستقرارهم في السلطة، وتطالب بياناتهم بالتزام ضبط النفس من الجانبين، ثم تعلو فيها بوضوح نبرة اتهامٍ تتغذى من الخلاف الأيديولوجي مع حماس، "الإخوانية"، لتتهمها بأنها المسؤولة عمّا يحدث لغزة من مذابح تستهدف المدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ.
تنامى الحقد والعداء السياسي الأيديولوجي في نفوس أولئك الحاكمين العسكر، فقتل كل النوازع الإنسانية تقريباً لديهم، وأحيا من "مرقده" ذلك الكنز الاستراتيجي الذي تباكت عليه إسرائيل، حين سقط نظام المخلوع حسني مبارك، بعد انتفاضة الملايين الحرة من الشعب العربي. ويتفاقم الإحساس بالموت المحيط بنا في مَن يحكموننا، حين نرى العدوان، من زاوية المراقب، وبشكلٍ يكاد يكون جلياً مشروعاً متكاملاً بأطراف عربية (أو هكذا تسمى اصطلاحاً!) لمحو "حماس" من خريطة الوجود السياسي في قطاع غزة، وفي فلسطين كلها، استمراراً، في ما يبدو، لهوس القضاء على كل ما هو إخواني.
وتبدو الظروف الدولية والإقليمية مهيأة لنجاح ذلك القتل الممنهج. لذلك، لا نرى، ولا نسمع، إلا الإدانات التي ألفناها ممّن لا شيء لديهم يقدمونه، الصامتين على العدوان على مَن يظنونه عدواً لهم في غزة.
لكن، ما لا يراه العسكر من الحكام العرب، أنه بات واضحاً جداً أن امتلاك التاريخ والسيطرة على مستقبل اللحظة وهم كبير، عاش فيه قبلهم ظالمون كثيرون.
ما لا يراه حكامنا وعسكرنا الانقلابيون أن غزة والضفة والقدس سيعلّموننا أشياء جديدة، مفاجئة، أقوى وأكثر إشراقاً من الاستسلام للمصير والموت النمطي الذي يدفعوننا إليه. غزة تعلّمنا أن موتنا ينبغي أن يكون على طريقتها هي في الحياة: باعتدال ونضال من أجل الحياة.