"دنكيرك".. السينما أم الحرب؟

04 اغسطس 2017
+ الخط -
تخسر كثيرا إذا شاهدت فيلم "دنكيرك"، في غير قاعة سينما وعلى غير شاشةٍ عريضة. لم يستخدم مخرجه البريطاني الأميركي، كريستوفر نولان (1970)، حيل برامج الكمبيوتر، وهو ينجز مشاهده ذات الفضاءات المهولة الشاسعة، في البحر والجو والبر. هذا واحدٌ من أسباب غزيرة تدفعك إلى مغادرة المنزل إلى صالة السينما، في "تقديرٍ" لهذا العمل الذي يعرض حاليا في العالم (تجاوزت إيراداته في أميركا في أسبوع 28 مليون دولار)، وعدّ من أعظم الإنتاجات البصرية في تاريخ السينما. الإثارة والتشويق والمتعة والحيوية حاضرة، غير أن هذه "اللوازم" الهوليوودية ليست أسباب التميّز التي يتوفر عليها هذا الفيلم، الأوقع جمالا وفتنة بين أفلام مخرجه، وإنما الوفاء الخالص فيه للسينما، باعتبارها فن الصورة أولا، حرارتها ودهشتها، حركتها وإيقاعاتها. أما موضوعة الفيلم، إذا ما اتفقنا أنها الحرب (جزئيا على أي حال)، فإنك لن تكون معنيّا بها كثيرا، وأنت تشاهد هذا المنجز السينمائي الذي يستعيد واحدةً من وقائع بدايات الحرب العالمية الثانية في العام 1940، بقدر ما تشدّ حواسَّك فيه الحرفية العالية في التصوير، والانتقالات الحادّة من مشهد إلى آخر، والحفاظ على إيقاع التوتر الخاص الذي يورّطك فيه المخرج البارع ومدير التصوير للفيلم وفريقهما. ذلك أن "الصنعة" السينمائية هنا تماما، أكثر منها في موضعٍ آخر، والظاهر أن الطاقة التعبيرية الهائلة للصورة تيسّرت هنا بالاستخدام اللافت لأحدث تكنولوجيات التصوير وكاميراته الفريدة، موازاةً مع الموسيقى التي بدت من "أبطال" الفيلم المدهش.
دنكيرك بلدةٌ فرنسية على بحر المانش، قبالة القنال الانكليزية بنحو 40 كيلومترا. تجمع فيها أكثر من 400 ألف جندي، معظمهم بريطانيون، من قوات الحلفاء، غير أنها تعرّضت لحصار ألماني، ولقصفٍ جوي من طيران هتلر، فكانت خطة تشرشل أن يتم إجلاء هؤلاء الجنود، وإعادتهم إلى "الوطن". يُسعفك هذا الإيجاز (المخلّ ربما؟) لمعرفة ما ينشغل به فيلم كريستوفر نولان. ويبدو أن ثمّة روايةً بريطانيةً لتلك الواقعة العسكرية، تقوم على تظهير نصرٍ كبير، في حماية تلك القوة من الجنود من مقتلةٍ مريعة، ما قد يُدرج هذه الرواية في "دعائيةٍ" ترفع الروح المعنوية لبريطانيا، فيما يقول من يقول إن عملية جلاء تلك القوات كانت "هروبا مذلا". وعلى أي حال، لم يكترث "دنكيرك" بمراجعةٍ من أي نوعٍ للواقعة التاريخية، ولم يلتفت إلى سياقها في مسار حربٍ كانت قد بدأت للتو، وتحقق فيها نصر بريطانيا وحلفائها لاحقا. ولن تنهمّ، أنت المشاهد، في قاعة السينما طبعا، بالحقيقيّ الواقعي وغير الحقيقي الواقعي في ما جرى على شواطئ البلدة الفرنسية، وإنما ستنصرف مدارككك وحواسك إلى أفرادٍ في الفيلم، يقاومون ويخافون، ويستنفرون ما فيهم من إمكانات الشجاعة، ومن مقادير الإرادة في مواجهة الأقدار، وفي مغالبة الموت الذي يقترب ويقترب، ويختفي ويعود. هذا ما يقوم عليه "دنكيرك" تماما، ولا شيء آخر. ليست الحرب موضوعه تماما، لأن العدو، كما هو اسم الطرف الآخر، لا ترى على الشاشة منه أحدا، لا تلحظ غير الخوف منه، ومن قوته التدميرية ومفاجآتها. لا ترى غير قاذفاتٍ له في الجو، ترمي قنابلها على مجاميع الجنود، على سفن الإنكليز الصغيرة والكبيرة، لتعطيل الإجلاء، وللقتل نفسه، ولإحداث أقصى ما يمكن من تمويت.
أن تنجو من الموت، في الجو والبحر والبر، بين نيرانٍ تشتعل، وفي قوارب غارقة، وفي مياه خادعة، وبين أمواج وأمواج، لا من المياه فقط، بل من البشر الهاربين، الجزعين في كل دقيقة. هذه أهم "أجواء" فيلم كريستوفر نولان الذي استخدم طائراتٍ وقاذفات حربية حقيقية قديمة، بل واستعان بجنود بريطانيين، وبكل ما هو عتيقٌ ينفعه في تشخيص لحظة دنكيرك في أيام بعيدةٍ قبل أزيد من 77 عاما. الحوار قليل، لا نساء، لا أبطال نجوما. ما يتّسق تماما مع منطق الفيلم ومنطوقه، مع مبناه ومعناه، مع الجوهريّ في مقولته الأساس، أي الاحتفاء بقدرة الإنسان، مفردا وإنْ بين مجموع، على مقاومة القسوة وأشباح النهاية والموت، على تحويل الخوف إلى طاقةٍ وإرادة، ما أمكن ومن دون أوهام. تُرى، هل هذا كله من الدراما؟ لا أعرف. ما أعرفه أن السينما، وليس الحرب، هي ما شاهدت في فيلم مبتكرٍ وأخّاذ.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.