دورة رئاسة شي جين بينغ الثالثة... شدّ الحبال مع واشنطن
شي جين بينغ الرئيس الوحيد منذ نشأة جمهورية الصين الشعبية الذي يُنتخب لدورة ثالثة على التوالي، كما قرّر قادة الحزب الشيوعي الصيني، في مؤتمره الوطني الـ20 الأسبوع الماضي. ففي عام 2018، أُلغيت المادة المتعلقة بفترة ولاية الرئيس، والتي لا يجوز أن تتجاوز فترتين متواليتين (عشر سنوات). وهو أيضا الرئيس الثالث، بعد ماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ، الذي دُمجت أفكاره في الدستور الصيني، من ضمن سبعة رؤساء تولوا رئاسة الجمهورية منذ التأسيس عام 1949.
ألقى شي خطابًا مطولًا في المؤتمر، زاد عن الساعتين، وقارب الـ2500 كلمة. وتحاول هذه المطالعة قراءة انعكاس الأحداث التي شهدتها الصين منذ خطاب شي الأول أمام المؤتمر الوطني الـ19 عام 2017، أي خلال السنوات الخمس اللاحقة، على خطابه الجديد، وما حمله من مصطلحات ومفاهيم أكثر حزمًا وتشدّدًا في مواجهة الولايات المتحدة، مع أن شي لم يذكرها بشكل صريح. ويمكن تفكيك الخطاب إلى ثلاثة عناوين رئيسية، تضم المصطلحات والصيغ الجديدة التي تُظهر تصاعد المنافسة الدولية مع الولايات المتحدة: التدخلات الخارجية والقوة القسرية، الهيمنة والأحادية، الاحتواء وتوازن القوى.
التدخلات الخارجية، القوة القسرية
لم يتطرّق شي جين بينغ، في خطابه الأول عام 2017، إلى هذين المفهومين، واستخدم مصطلح البيئة الخارجية (External Environment)، ليدلل على وعي الصين الطبيعة المعقدة لبيئتها الخارجية، ونجاح الدبلوماسية الصينية في إيجاد بيئة خارجية مواتية لتنمية الصين. في الخطاب الثاني، أضاف شي مصطلح التدخلات الخارجية (External Interference)، وقال "عارضنا بحزم الأنشطة الانفصالية الهادفة إلى استقلال تايوان والتدخل الأجنبي"، وقال أيضًا: "سنتخذ إجراءات حازمة لمنع ووقف تدخل القوى الخارجية في شؤون هونغ كونغ وماكاو". وعندما أشار إلى القوة القسرية، قال "لقد أظهرنا روحًا قتالية وتصميمًا راسخًا على عدم الرضوخ أبدًا للقوة القسرية، وحافظنا على كرامة الصين ومصالحها الأساسية". ومن الواضح أن شي يشير هنا إلى محاولات واشنطن الاستفزازية في أثناء زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وما تبعها من زيادة للتدريبات العسكرية الصينية في محيطها.
تتحدّد العلاقة بين الصين والولايات المتحدة في إطار الصراع بين قوتين، مهيمنة وصاعدة
كان اللغز بالنسبة لشي، منذ وصوله إلى الحكم، كيفية إيجاد مساحة أكبر للصين للعمل دوليًا، وفي الوقت نفسه، تجنّب المواجهة مع الولايات المتحدة، والتي وجد شي أن من الممكن أن تكون "عدوًا سيئًا". ولكن الموقف الصيني، في الفترة بين الخطابين، تصلب تدريجيًا إلى أن أصدرت وزارة الخارجية الصينية عام 2021 "ورقة حقائق"، أشارت فيها إلى تدخل الولايات المتحدة في شؤون هونغ كونغ ودعم القوى المعادية للصين المزعزعة للاستقرار، وفرضت عقوباتٍ اقتصادية على بعض المسؤولين الصينيين، ودعمت انفصال هونغ كونغ دولة مستقلة، وتحالفت مع بعض الدول للتدخل في شؤون السيادة الصينية. ولذلك، كان خطاب شي الجديد أكثر حزمًا من خطابه الأول ومن خطابات الرؤساء السابقين، فلأول مرة يجري استخدام مصطلحات "صارمة" وتحذيرية لأولئك الذين يعبثون بالسيادة الصينية.
الهيمنة والأحادية وتوازن القوى
كرر الرئيس الصيني في خطاباته منذ توليه رئاسة بلاده عبارة أن "العالم يريد العدالة، وليس الهيمنة". وفي خطابات السياسة الخارجية الصينية، تتكرّر المطالبة بـ"التعدّدية القطبية" و"دمقرطة العلاقات الدولية". ومن وجهة نظر بكين، العوائق التي تحول دون تحقيق العدالة والسلام هي الهيمنة وسياسة القوة وأنشطة الحماية الذاتية لعدد قليل من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. لم يتطرّق شي، في خطابه الأول لعام 2017، إلى مفهوم الهيمنة إلا مرة، وفي سياق توضيح النيات الصينية، قائلًا "بغض النظر عن مرحلة التنمية التي تصل إليها، لن تسعى الصين أبدًا إلى الهيمنة أو الانخراط في التوسّع". وجاء هذا في سياق طمأنة جيران الصين بأن صعودها سلمي. ولكنه، في خطابه الجديد كرر الصيغة الأولى كما هي، وأضاف ثلاث صيغ جديدة في مواضع مختلفة، مهاجمًا فيها الهيمنة، قائلًا، "اتخذنا موقفًا واضحًا ضد الهيمنة وسياسة القوة بجميع أشكالها، ولم نتردّد مطلقا في معارضتنا الأحادية والحمائية والتنمّر من أي نوع". وأضاف: "تقف الصين بحزم ضد جميع أشكال الهيمنة وسياسات القوة، وعقلية الحرب الباردة، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والمعايير المزدوجة". وقال أيضًا "إن أعمال الهيمنة والاستبداد والبلطجة المتمثلة في استخدام القوة لتخويف الضعيف، والاستيلاء على الآخرين بالقوة والحيلة، وممارسات محصلتها صفر، تلحق أضرارًا جسيمة". وتشير كل هذه الصيغ، بشكل أو بآخر، إلى أن الصين تصعّد من خطابها الذي يناهض، كما تقول، السياسات العدوانية التي انتهجتها واشنطن كقوة أحادية مهيمنة في النظام الدولي.
كان اللغز بالنسبة لشي، منذ وصوله إلى الحكم، كيفية إيجاد مساحة أكبر للصين للعمل دوليًا، وفي الوقت نفسه، تجنّب المواجهة مع الولايات المتحدة
أما مصطلح الأحادية Unilateralism فقد ورد لأول مرة، حيث قال شي "تعارض الصين كل أشكال الأحادية، وتشكيل كتل وجماعات حصرية تستهدف دولاً بعينها". وهنا لا بد من التذكير بأن شي استخدم العبارات نفسها، عندما أعلنت واشنطن عن إنشائها تحالف أوكوس UKUS العسكري مع كل من بريطانيا وأستراليا، حيث اعتبر شي أن "أوكوس" استراتيجية عسكرية لاحتواء الصين وتعزيز الهيمنة الأميركية في جنوب شرق آسيا. وركز شي، في خطابه، على أن الصين لا تلعب دورًا أحاديًا، بل تمارس التعدّدية وتشجع الدول النامية على المشاركة في المؤسّسات الدولية. وقدّم شي الصين دولة مسؤولة داخل المجتمع الدولي في تعاطيها مع أزمة كوفيد - 19 مقابل بعض الدول التي انتهجت الحمائية وأضرّت بالعولمة، وهنا بالتأكيد يشير شي إلى سياسة "أميركا أولًا" الترامبية.
الاحتواء وتوازن القوى
على الرغم من أن الرئيس الصيني لم يطرح استراتيجية الاحتواء بشكل واضح في خطابه الأول في العام 2017، واكتفى بالقول إننا "نرفض عقلية الحرب الباردة"، إلا أنه أشار إليها في خطابه الجديد في موضعين: عندما قال "قد تتصاعد المحاولات الخارجية لقمع الصين واحتوائها في أي وقت"، وعندما قال "في مواجهة التغييرات الجذرية في المشهد الدولي، وخصوصا المحاولات الخارجية للابتزاز والاحتواء والحصار وممارسة أقصى قدر من الضغط على الصين، وضعنا مصالحنا الوطنية أولاً". يشير هذا إلى قناعة شي بأن هناك حملة احتواء جارية تشنّها واشنطن منذ إعلانها استراتيجية التوجّه نحو آسيا عام 2009. والاحتواء استراتيجية أميركية مورست لإضعاف الاتحاد السوفييتي خلال فترة الحرب الباردة، وتعني، بحسب عرابها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان: عزل الاتحاد السوفييتي وحصره في حدوده ومنع توسّعه. ومنذ تولي شي رئاسة الجمهورية تكرّرت في خطاباته صيغة أن "الولايات المتحدة ما زالت عالقة في عقلية الحرب الباردة"، والتي تشير إلى تخوف صيني من استراتيجية الاحتواء ومناهضتها.
وفي السياق ذاته، استخدام شي مصطلح توازن القوى (Balance Of Power)، والذي لم يكن قد جاء عليه في المؤتمر الـ19، وقال "هناك تحوّل كبير في ميزان القوى الدولي، ما يوفر للصين فرصًا استراتيجية جديدة في متابعة التنمية". ويشير مصطلح توازن القوى إلى حالة الاستقرار بين قوتين أو أكثر من القوى المتصارعة، حيث تمنع أي دولة من أن تصبح قوية بما يكفي لفرض هيمنتها وإرادتها على الآخرين، وبالتالي، الهدف النهائي لتوازن القوى هو منع دولةٍ من ممارسة السلطة المطلقة. وترى الصين أن صعودها مستمرٌّ بخطى ثابتة، وفي الوقت نفسه، تراقب خط التراجع التدريجي الأميركي، وتسعى في هذه المرحلة إلى تعزيز فكرة أنها دولةٌ لا تسعى إلى الهيمنة بقدر ما تسعى إلى المشاركة في نظام دولي يمتاز بالتعدّدية القطبية، وهو المصطلح المرادف لتوازن القوى. ولذلك، انتقد شي، في خطابه، السلطة المطلقة للولايات المتحدة، وهي في السياق العملي تعني الهيمنة التي تؤدّي، في النهاية، إلى اتخاذ قرارات أحادية من دون احترام سيادة الدول الأخرى.
تخوّف صيني من استراتيجية الاحتواء ومناهضتها
تتحدّد العلاقة بين الصين والولايات المتحدة في إطار الصراع بين قوتين، مهيمنة وصاعدة، ففي وقتٍ تحاول فيه الأولى وقف صعود الثانية واحتواءه، تسعى الثانية إلى تقديم نفسها بديلا أو دولة أكثر مسؤولية، وتمتلك قوتها ميزاتٍ لا تمتلكها الأولى. وتعزّز الصين هذه الصورة من خلال استخدام نقاط الضعف، أو ما يمكن استخدامها نقاط ضعف في السياسة الخارجية للدولة المهيمنة. فعندما تتحدّث الصين عن الحمائية، فإنها تقدم نفسها بديلًا وشريكًا وطرفًا مسؤولًا لا يمكن له أن يتخلى عن البشرية في فترة الأزمات كما فعلت واشنطن. وعندما تركّز على رفضها الهيمنة والأحادية، فهي من جهة تشير إلى السلطة المطلقة لأميركا وشن الحروب العسكرية وعدم احترام سيادة الدول، وفي الوقت نفسه، تقدّم نموذجًا خاصًا بها بأنها دولةٌ تحترم سيادة الدول، وأن سياستها الخارجية قائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، وأنها لا تتبنّى علاقات دولية محصلتها صفرية، بل تقوم على فكرة الكسب الجماعي أو الـWin-win Game.
وبعيدًا عن التصريحات المصاغة بدقة، والتدرج في إعلان التحدّي للهيمنة الأميركية، علينا أن نتذكّر أن الصين نفسها، وبحسب استراتيجيتها منذ عام 2017، وضعت هدفًا نهائيًا تعمل للوصول إليه مع حلول منتصف القرن الحالي، وهو أن تصبح الأمة الأعظم في العالم (The Greatest Nation)، بعد تمكّنها من امتلاك جميع العناصر المادية والمعنوية للقوة. ويشير هذا إلى الرغبة في الهيمنة، ولكن باستخدام مصطلحٍ أكثر نعومة، فالهيمنة، وفق جون ميرشايمر، تعني "امتلاك الدولة عناصر القوة المادية العسكرية والاقتصادية". وعند وليم والفورث، تعني الهيمنة "امتلاك الدولة عناصر القوة الأربعة الحاسمة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والناعمة". وهي المجالات التي تعمل الصين على تطويرها منذ تبنّيها لسياسة الإصلاح والانفتاح عام 1979. هل سيتخلّص العالم من الهيمنة الأميركية ليستقبل هيمنة صينية بعد ما يقارب ربع قرن؟ كان جواب رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، لي كوان يو، أحد أهم القادة الآسيويين في زمنه، على سؤال شبيه بشأن إمكانية احتلال الصين مكانة الولايات المتحدة وتحوّلها إلى القوة المهيمنة على آسيا في المستقبل القريب: "ولمَ لا؟ كيف يمكن ألا يطمحوا إلى أن يكونوا الرقم واحد في آسيا والعالم كله؟".