دور مرتقب للجيش اللبناني
يتعاظم الحديث الدولي عن دور مرتقب للجيش اللبناني في جنوب البلاد، في مرحلة ما بعد انتهاء المواجهات بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي. ويدور الكلام بشأن تفاصيل أكثر دقة، متعلقة خصوصاً بدعم الجيش عسكرياً، وهو الأمر الذي لم يكن، وفق الأدبيّات الرسمية اللبنانية، مسموحاً به في السابق. يختلف الجيش اللبناني عموماً عن أقرانه من الجيوش العربية، انطلاقاً من تعدّد الطوائف في لبنان، الذي جعل من الجيش صورة عن المجتمع من جهة، وساعياً إلى الحفاظ على وحدته في لحظة تصادم الطوائف من جهة أخرى. الخط الرفيع الذي سار عليه الجيش، واستناداً إلى أنه يتلقّى الأوامر من السلطات السياسية، جعله في موقع أضعف تقليدياً من أي جيش آخر.
تاريخياً، لم يكن الجيش اللبناني مشروع انقلاب، حتى أنه في محاولة انقلاب ضبّاط منه ينتمون للحزب السوري القومي الاجتماعي في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1961، اصطدم الانقلابيون بأكثرية عسكرية موالية للنظام في حينه. وفي 11 مارس/ آذار 1976، في بدايات الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، قام العميد عزيز الأحدب بانقلاب وُصف بـ"الأبيض"، لكنه فشل. ومع أن مفهوم "الانقلاب" لم يخرق صفوف الجيش فعلياً، إلا أن تفكّكه في هذه الحرب، وتعدّد ولاءات عناصره لقادة عُدّوا منشقين، أظهرا الصورة الفعلية في ذلك الوقت عن عجز الجيش عن التحرّك، في ظلّ التصارع الطائفي على تقاسم الصلاحيات في السلطة، ما أدّى إلى غياب الإمرة الموحّدة.
وفي نهايات الحرب اللبنانية، قام الرئيس السابق ميشال عون، بصفته قائداً للجيش، بمحاولة لتوحيده، لكنها أدّت، بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى حربين واسعتي النطاق. ولاحقاً، بعد استتباب الأمن في البلاد، عاد الجيش مؤسّسة واحدة، وبات قادتُه مرشحين "طبيعيين" لرئاسة الجمهورية، تيمّناً بأول رئيس للبلاد آتٍ من صفوف هذه المؤسسة: فؤاد شهاب (1958 ـ 1964).
مع ذلك، استمرّت النزاعات على السلطة في تبديد "هالة" الجيش، وصولاً إلى الأزمة المالية 2019، حين تلقت المؤسسة العسكرية ضربة أساسية في تأمين رواتب عناصرها ومستلزماتهم. وهو ما دفع دولاً عدة لتقديم الدعم لها، على قاعدة أن "على المؤسّسة البقاء حيّة، لأنه بانتفائها ينتهي لبنان ككيان". وربما حانت اللحظة لبناء مشروعية أوسع للجيش عبر نشره في الجنوب اللبناني بكثافة، كونه في الأساس موجود في مواقع أمامية عدّة، وقد قصفها الإسرائيليون مراراً في الأشهر الأربعة الماضية.
غير أن التساؤلات الملحّة التي تناقش دور الجيش تتعلق بعقيدته العسكرية وتدريبه وسلاحه. أيضاً في التاريخ، لطالما اعتُبر الجيش اللبناني غربيّ الهوى بمعظم تدريبه وأكثرية سلاحه، وبنيل ضباطه شهاداتهم العسكرية من معاهد في بلادٍ غربية. وكان غريباً، أيام الاحتلال السوري للبنان، تحويله إلى جيش بعقيدة متناسلة من إرثٍ سوفييتي، غير أن الجيش أوجد التوازن المطلوب، عبر التشديد على عدويّن: إسرائيل والإرهاب. صحيحٌ أن ذلك يضعه على ضفة مغايرة للمعسكر الغربي، لكن لم يخرج منه.
وإذا ما قورن بالجيشين، العراقي الذي حلّه الأميركيون بعد غزوهم بغداد في عام 2003، والسوري الذي تحوّل إلى ألوية موزّعة الولاءات، يبدو الجيش اللبناني أفضل حالاً، خصوصاً أنه لا يزال الأكثر مقبولية لدى الشعب اللبناني، في ظروفٍ هي الأقسى في تاريخ البلاد. ودائماً في التاريخ، فإن حدثاً ما كافٍ لإشعال شرارة انطلاقٍ، وهو ما يُخرج الفرد أو المجموعة من الظلّ إلى الأضواء. وانتشار الجيش في الجنوب اللبناني لن يكون فقط مجرّد خطوة عسكرية، بل نقطة تراكمية أخرى في سياقاتٍ ستؤدي، في نهاية المطاف، إلى تكريس الجيش مؤسّسة ذات ثقلٍ سياسي بالمعنى الدولي لهذا الثقل، لا بالمعنى اللبناني الضيّق، من دون أن تنساب أفكار انقلابية إلى داخل المؤسّسة، لأن أسباب انقسامها في الحرب تبقى موجودة، حتى نقل النظام من هيكليته الطائفية إلى تركيبة علمانية، وهو أمر غير مرتقب في المرحلة الحالية.