دولتنا فجّرتنا
أكتب بضع كلمات ثم أمحوها. أسال نفسي ما جدوى الكتابة. ثم أعيد الكرّة. أحاول لملمة أفكاري المشتتة، علّي أن أنجح في ذلك، بعدما فشلت في لملمة شتات نفسي. دوي الانفجار يتكرّر في أذني. يحرمني النوم. اسمعه كلما غفوت فأصحو مجدّداً. أنظر حولي، أحبس دموعي وأتسمر في مكاني.
أشعر أنني عالقة في لحظة دوي الانفجار. كأنني أمام مُخرج بغيض لا يملّ من طلب إعادة المشهد. أستعيد تلك الثواني الثقيلة مراراً. في لحظة الانفجار الأول كان الصوت خفيفاً. نظرت باتجاه المروحة التي توقفت، ظناً أن الصوت صادر منها، إيذاناً باستسلامها بعدما قضت أسابيع طويلة في تعويض غياب الكهرباء والمكيف. أكمل التواصل مع محدّثي على سكايب، وأنا أفكّر لماذا توقفت، وألعن حظي، متسائلة كيف سأكمل العمل في هذا الحر .. ثوانٍ قليلة، ثم اهتز المنزل وامتلأ بالغبار، وعندما انقشع اكتشفت أنه أطاح معظم ما فيه أرضاً. صرخت لمحدّثي انفجار، وكتبت لفريق العمل: حرب .. انفجارات. في تلك اللحظة، لم أفكّر سوى في أمي. هل هي بخير؟ هل نجت هذه المرة أيضاً، أم أنها تلقت الضربة القاضية بعدما دمرتها صدمة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري قبل 15 عاماً عندما شاهدت الدخان المتصاعد، فركضت إلى الشارع حافية القدمين تلاحقه، لأن مدرسة أخي كانت قريبةً من مكان الانفجار. هي علقت في تلك اللحظة ولم تتجاوزها.
منزلها قريب مني، أريد الاطمئنان عليها. نظرت إلى المبنى الذي تقطن فيه فكان متماسكاً بينما الشارع مليء بالدمار. حملت سماعة المنزل وطلبت الرقم، لم تخني ذاكرتي في هذه اللحظة. أنا أدرك أن لا خطوط خلوية في أوقات الانفجارات. دائماً ما تخذلنا وتتعطل. رنّ الهاتف، فكان صوت أبي ومن خلفه صراخ. نحن بخير قالها لي، ثم أضاف أعطيناها حبة مهدئ. بدأت ترد الأخبار عن مكان الانفجار. قالوا قرب بيت الوسط، فصرخت اغتالوا سعد الحريري، ثم قالوا المرفأ وثبتوا عند هذه الرواية. المرفأ "يعني طار المكتب".. هذا ما خطر ببالي. بعد ساعات من الانفجار، حاولت الوصول إليه. مررت بسيارتي فوق أكوام من الزجاج المحطم في الشوارع، لكن العسكري منعني من دخول حي الجميزة. مع ساعات الصباح الأولى، تنقلت سيراً على الأقدام في شوارع جانبية أحفظها جيداً بعيداً عن أعين الأمن. الأبنية محطّمة، السيارات مهشمة ومتكومة على نفسها من ضغط الانفجار. وجدت نفسي أخيراً أمام مبنى المكتب. خانتني الشجاعة، لم أجرؤ على صعود الدرج وتفقده. سِرت في جميع الأحياء المجاورة. مشهد الجرحى من أبناء المنطقة والدمار يتكرّر. أفكر في مصيري الذي كاد يكون مشابهاً لكني نجوت كما كثر من اللبنانيين ننجو بالمصادفة في كل مرة. أعود أدراجي وأنا أختنق. أحمل الهاتف، أشاهد عشرات المقاطع المصوّرة التي وثّقت لحظات الانفجار وما قبله. أستمع إلى البث المباشر على محطات التلفزة، صرخات أهالي المفقودين، الأمهات والآباء والأشقاء. جميعهم يتمسّكون بأمل العثور على ذويهم بين الأنقاض، لكن من عثر عليه منهم كان مجرّد أشلاء ممزقة، وموزعة على مستشفيات عدة. أسمع أحدهم ينادي بسحل المسؤولين في الدولة، أهزّ رأسي موافقة. آخر يطالب بتعليق المشانق أؤيده أيضاً.
كل أنواع الانتقام من هؤلاء لن تشفي جروحنا أو تعيدنا إلى لحظات ما قبل الانفجار. الدولة فجّرتنا، أكرّرها، وبشكل أدقّ لم أعد أعرف كم مرة أقولها في الساعة الواحدة. لا أجد سوى هذا التعبير ليلخّص المجزرة. أقرأ التقارير التي تؤكد معرفة عشرات المسؤولين بوجود 2750 طناً من نترات الأمونيوم في المرفأ من دون أن يتحرّكوا حتى عندما اندلع الحريق. أسال نفسي لماذا لم يطلبوا إخلاء موظفي المرفأ؟ لماذا لم يعطّلوا حركة مرور السيارات؟ لماذا تركوا كل هؤلاء الضحايا يسقطون؟ أجيب نفسي "دولتنا فجّرتنا".