دير شبيغل تعلّم هابرماس
ليس تزيّدا القولُ إن الصحافة انتصرت على الفيلسوف. أو بأقلّ حدّة، إنها قوّمت اعوجاجا عن العقل لحظتُه في الفيلسوف، بعد أن انتقدته ولم تستسلم لمهابته. وجدت لديها كل السلطة لتقرّعه (؟) عندما أبعد العقلَ في مسلكٍ له معلن، وهو الذي أمضى أكثر من نصف قرن في النهوض بقيمة العقل. .. الفيلسوف هو الألماني يورغن هابرماس (91 عاما)، والصحافة هي مجلة دير شبيغل الألمانية. ما أن بلغها نبأ قبوله، السبت الماضي، جائزة الشيخ زايد للكتاب للشخصية الثقافية للعام 2021 (نحو 250 ألف دولار)، حتى نشرت مقالةً، فيها إن "قبول واحدٍ من أهم الفلاسفة الألمان جائزة دولةٍ تشتهر بالقمع وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية مؤشّرٌ يبعث على الإحباط". وسألت: "هل يمكن أن يتحوّل هابرماس إلى أداة دعايةٍ إماراتية، يتم توظيفها لإخفاء وحشية نظام الحكم وراء ستار دخانٍ من المفردات السامية والتألق الثقافي؟". وانتهت المقالة إلى أنه "عادةً، عندما يلتقي العقل والقوة تفوز القوة". وبدت هذه العبارة أشبه باتهامٍ ثقيلٍ لأحد أبرز المنظّرين الأحياء في العالم، ساجَلت كتبه (نحو خمسين) في قضايا العقل والنقد والتواصل والاجتماع والمصالح والمعرفة والعدالة والديمقراطية والحقيقة والأخلاق. و... . وبحسب عارفين أدرى من صاحب هذا التعليق، عُدّ هابرماس الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسَه على المشهد السياسي والثقافي في بلاده. وبحسب الوزير الأسبق، يوشكا فيشر، هو "فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة". ولكن الاستثنائية الضافية في هذا كله لشخص الفيلسوف الشهير لم تمنع "دير شبيغل" من إشهار سؤالها ذاك، ولا من مفاجأته بجدل في العقل والقوة.
وعندما يسارع صاحبنا (هل هو صاحبنا فعلا؟)، هابرماس، إلى إرسال رسالةٍ إلى "دير شبيغل"، معقبا على ما فاجأتْه به، فذلك ما قد يعود إلى أن المجلة العتيدة لم تُرد أن تُعلمه بما لم يكن يعلم، وإنما أن يتعلّم منها ما يحسُن أن يتعلّمه، أو أرادت أن تعلّم عليه (باللغة الشعبية). وقد دلّت لغة الرسالة على أن صاحب "المعرفة والمصلحة" على استعدادٍ ليعرف ما لم يكن يعرفه، وأن يصحّح خطأ وقع فيه، وأيضا أن يجادل بشأن تنازع العقل والقوة، عندما عقّب في بيانه "نعم، على المدى القصير. ولكن على المدى الطويل أنا أؤمن بالقوة العقلانية للكلمة النقدية، شرط أن تظهر بحريةٍ في المجال السياسي العام .. كتبي التي تُرجمت على نحو طيب إلى العربية كافية لذلك". (أشهر كتبه وأكثرها أهمية "نظرية العقل التواصلي .."، بجزئيه، صدر في 2020، بترجمة فتحي المسكيني عن الألمانية، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). يكتب هذا بعد أن يُبلغ الجمهور (والإمارات؟) إنه يصحّح خطأ قبوله جائزة الشيخ زايد، ويرفضها. ويُخطرنا بأنه لم يكن يعرف بشكلٍ كافٍ العلاقة الوثيقة بين المؤسسة التي تمنح الجائزة والنظام السياسي في أبوظبي. .. وهنا يصحّ القول إن عزلة الفيلسوف (أو شيخوخته؟) أو عدم درايته الكافية بحقائق قائمة في العالم، لا تيسّران له اتخاذ الموقف الأصوب، والذي يقترن بصفته أهم فيلسوف في ألمانيا منذ عقود، وإنها الصحافة هي التي تُرشده إلى هذا الموقف، وليست معرفته بالعقلانيات، الوظيفية والاجتماعية، التي كتب عنها كثيرا. وهذا ما صنعته "دير شبيغل"، فلولاها لكرّمت السلطة في أبوظبي بعد أيام الفيلسوف الذي هنأه ولي العهد القوي، محمد بن زايد، وشقيقه هزّاع، وسمّياه فيلسوفا، كما فعل القائمون على الجائزة، وقد نقلوا عمن نقلوا إنه الفيلسوف الأكثر تأثيرا، ثم نزعوا صفته هذه عنه، فصار "السيد يورغن هابرماس" (!)، لمّا تأسفوا لتراجعه عن قراره المسبق قبول الجائزة، مع احترام قراره.
إنها الصحافة، إذن، عندما تُحرز سلطتها، وتملك قوتها، في مقدورها أن يقرأ فيها فيلسوفٌ باهظ المكانة، اسمه هابرماس، ما عليه أن يقرأ، ثم يتجاوب بتواضعٍ فائض، لأنه تعلّم من محاججتها له، وعرف منها غير الذي سمعه من مدير معرض فرانكفورت للكتاب، عن جائزة الشيخ زايد، فاستدرك أمرَه، لمّا وقف على ما بين مبادئة والنظام في الإمارات من تناقض، ثم يستحقّ من "دير شبيغل"، تاليا، إشادَتها بقراره رفض الجائزة، والذي غلّب فيه "العقل"، كما كتبت عن أكثر الفلاسفة الأحياء في العالم انشغالا بالعقل.
الحكاية، كلها، هنا، في سلطة صحافةٍ في مجتمعٍ حرٍّ في نظامٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ ديمقراطيٍّ حقيقي، تعرف واجبها الأخلاقي. إنها في غياب صحافةٍ كهذه في بلادنا العربية الزاهرة، تؤشّر لفيلسوف العقل إلى موطن العقل فيهتدي إليه. وكيف لها أن تكون بين ظهرانينا، ونُظُمنا السياسية على ما نعرف؟