ذئب منفرد بالسلطة في تونس
تفاقمت الأزمة التونسية على جميع الأصعدة، وزاد الطين بلة تعطيل صندوق النقد الدولي أي اتفاق مع الحكومة التونسية التي تعيش أسوأ أيامها بين مطرقة شعبوية رئيسها الفعلي، رئيس الجمهورية، وسندان الواقع الاجتماعي الصّعب، ما جعل أهم عناوين هذه المرحلة تعدّد المبادرات السياسية، بعضها لإنقاذ البلاد وأخرى لإنقاذ "مسار إنقاذ" الرئيس. ومع ذلك، يصرّ قيس سعيّد، ومن تبقوا له من أنصاره داخل الأجهزة وفي الشارع، على تجاهل كل الصعوبات والمخاطر المحدقة بالبلاد، وتحويل النقاش والاهتمام عن موضعه الحقيقي، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، إلى نقاش قضائي قانوني، متغلّباً في ذلك بحقّه في احتكار عنف الدولة وتطويعه النيابة العمومية وهرسلته المستمرّة القضاء.
تغلبت تونس على كل الأزمات السابقة التي عاشتها بعقلنة الخطاب والسلوك، ومحاولة إيجاد مخارج سياسية، تلافياً للسقوط في حالة من الصراع الصفري المدمّر، المتمظهر بأشكال مختلفة من ليبيا وصولاً إلى العراق. وليس الاندراج في أتون هذه التجارب بعيداً، مع اختلاف السياقات والخاصّيات المجتمعية، بسبب توفر الشروط النفسية والاجتماعية والسياسية المسهلة لذلك.
لقد اختار رئيس السلطة الانقلابية أن يفرض حكمه بأمر الواقع، ومن ثم مواجهة الأزمات بحلول أمنية وتلفيق الملفات القضائية، رغم نضال جزء كبير من هذا القطاع لفرض استقلاليته... على خطى سابقيه من مؤسسي الدولة البوليسية، استعاض عن طاولة الحوار بمحاولة إنهاك معارضيه عبر الاستجوابات والتحقيقات الأمنية والقضائية في ملفات جلها سياسي وحقوقي. والأخطر في هذه الممارسات المنهج الذي يسير به قيس سعيّد من دون استقراء لمآلات الأمور، فهو ذئبٌ منفردٌ في رأس السلطة، ومسقط على المشهد السياسي، وليس له أي التزامات تنظيمية وحزبية، أو ما شابهها، تقيّده قليلاً، ما يفتح أمامه حرية الحركة والمغامرة في المجهول، كمسؤول شعبوي يسعى إلى تحقيق نزواته السلطوية، فمراهنته المستمرّة على الجهاز الأمني والعسكري، منذ نزاعه الدستوري مع رئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي، بشأن هذا الملف، واستعمال هذه الأجهزة في انقلابه، ثم الاستنجاد بهم في جميع المحطّات، دلائل على نزوع الشخص نحو المغالبة، وميله إلى قوة العنف، وليس قوة الرأي والحكمة. ويمكن أن يؤدّي هذا التوجّه، في مثل هذه السياقات من الأزمة المتشعبة والمتميّزة بتشتت المعارضة واحتقان الشارع الذي لا يجد نفسه وتطلعاته في جميع الصفوف والشقوق، سلطة ومعارضة، إلى انفجار اجتماعي، مثل ما يريد أن يوصّف دائماً قيس سعيّد الثورة التونسية بالانفجار الثوري.
يتحمّل وسيتحمّل قيس سعيّد مسؤولية الفشل الذريع في إدارة ملفات الحكم والدولة، وتحويل البلاد إلى مربع أمني لن ينجو منه هو نفسه، حين تأتي اللحظة المناسبة
ولكن هل هذا ما يريده رئيس تونس، من أجل بسط نفوذه الأمني ومقايضة الناس بين أمنهم وبقية قضاياهم، أم أن الغرض مزيد من إنهاك الأوضاع والمؤسسات، لتتحول بعض الخيارات المطروحة في الكواليس من قبيل الالتحاق بحلف التطبيع في مقابل الدعم والإسناد إلى ضرورات حيوية مستعجلة؟.. في كلتا الحالتين، سيتحمّل قيس سعيّد مسؤولية الفشل الذريع في إدارة ملفات الحكم والدولة، وتحويل البلاد إلى مربع أمني لن ينجو منه هو نفسه، حين تأتي اللحظة المناسبة.
في الوسع اليوم السبت، 14 يناير/ كانون الثاني، ذكرى هروب الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، أن يكون لحظة مفصلية في محاصرة منظومة الانقلاب وإسقاطها، إذا ما ترفّعت قوى المعارضة عن خلافاتها الجانبية مؤقتاً، وصوّبت سهامها نحو الهدف الصحيح؛ إسقاط الانقلاب قبل انهيار الدولة فوق رأس الجميع.