ذاكرة عربية مثقلة بالمجازر
لا يكاد يخلو أي شهر من ذكرى مجزرة ارتكبت في إحدى دول الربيع العربي. تشكل المجازر جزءاً من ذاكرة الثورات والانتفاضات والحراكات، من سورية إلى اليمن، ومصر، وليبيا، وكذلك السودان. لم يوفر حكام هذه البلدان الذين أرادوا التشبث بكراسيهم، أو حتى من أتوا بعدهم، أي وسيلة إجرامية إلا استخدموها في مواجهة المدنيين.
قائمة المجازر في سورية لا تنتهي، سواء بالكيميائي في الغوطة وخان العسل وخان شيخون، أو الذبح بالسكاكين في البيضا والحولة. أما السجون، فيمكن وصفها بأنها مجزرة مستدامة. والمحاسبة الحقيقية تبدو بعيدة المنال، فلا العقوبات ولا المقاطعة كانت ذات جدوى في منع النظام من الاستمرار بقتل المدنيين.
لليمنيين أيضاً في 18 مارس/ آذار من كل عام وقفة مع ذكرى مجزرة الكرامة، عندما جرت محاولة فضّ اعتصام المتظاهرين ضد علي عبد الله صالح بإطلاق النار وقتل العشرات. ولم يُسمَع أنه جرت مساءلة أي متورّط في الجريمة أو معاقبته. وفي ليبيا، لم يكن الوضع أقلّ سوءاً مع محاولة معمّر القذافي وأد الانتفاضة ضده مهما تطلب الأمر، قبل أن تتبدّل هوية المجرم وتتعدد وجوهه بعد إطاحة القذافي على وقع الاقتتال الأهلي بين الليبيين، ومحاولات أكثر من طرف للهيمنة على السلطة بقوة السلاح. ولمصر نصيبها الدامي أيضاً بعد مذبحة فضّ اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013، عندما اختار النظام، على مدى ساعات، تصفية المئات، بذريعة أن الاعتصامين غير سلميين، قبل أن يطلق أوسع حملة تنكيلٍ بكل من يجرؤ على الهمس، وليس رفع الصوت، ويزجّهم في السجون، ويعمل على تدويرهم في القضايا، على أمل أن يتخلّص منهم في المعتقلات بسبب الإهمال الطبي.
وعلى خطى النظام المصري، سار عسكر السودان الذين استولوا على الحكم بعد إطاحة عمر البشير، عندما اختاروا في 3 يونيو/ حزيران 2019 فضّ الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم ليسقط نحو مائتي قتيل على أيدي العسكر، رميت جثث عشرات منهم في النهر. وتحلّ الذكرى الثالثة للمجزرة اليوم، من دون أن تتحقق العدالة للضحايا وذويهم، فالعسكر أجادوا لعبة تعطيل عمل لجنة التحقيق، مستغلين الأزمات المتلاحقة التي صنعوها للحفاظ على هيمنتهم على السلطة.
وإذا كانت المحاسبة الكلية للمجرمين قد غابت نتيجة عوامل متعدّدة، تتعلق بتغوّل الأنظمة (سورية ومصر) أو ضعفها وتشظّيها (اليمن وليبيا)، يبدو الوضع في السودان مختلفاً، ولو جزئياً. صحيحٌ أنه لم يقدَّم أي متورّط في المجزرة إلى المحكمة، تحديداً من قيادات الصف الأول الذين خطّطوا بشكل منهجي للجريمة، معتمدين على إرثٍ من الانتهاكات والفظائع في عهد البشير، إلا أنه منذ المجزرة لم يتمكّن العسكر من وأد حراك الشارع، أو فرض أنفسهم لاعباً وحيداً في الساحة. أُجبر العسكر، عقب المجزرة، تحت ضغط الشارع والضغوط من قوى إقليمية وخارجية، على الرضوخ جزئياً، والقبول بالفترة الانتقالية بالشراكة مع القوى السياسية، عبر تشكيل مجلس السيادة، وإن لم يمنعهم ذلك من تنفيذ انقلاب جديد مع اقتراب موعد تسليم رئاسة المجلس للمدنيين وإطاحة عبد الله حمدوك. ومرة جديدة، أعادت الأزمة السياسية التي فجرها العسكر الزخم للتحرّكات، ولكن هذه المرّة بعيداً عن التنظيمات الحزبية التقليدية، فرافعة التحرّكات، لجان المقاومة، التي أخذت على عاتقها إبقاء النضال في الشارع، تمتلك خطاباً واضحاً ومباشراً تجاه السلطة الانقلابية، و"ضرورة إسقاطها وإخراجها من العملية السياسية ومحاكمة كل المسؤولين عن العنف والقتل وإطلاق الرصاص والاغتصاب". وأثبتت أنه، مهما تغوّل العسكر سياسياً أو عبر المجازر، فذلك لن يكون كافياً لإسكاتها.