راقصون على طبول الزلزال
استفاد العلماء من الطاقة المختزنة في أيام الأرض وأحوالها وأسقامها وعوائدها، مثل طاقة المدّ والجزر والأمطار والرياح والبراكين. وهذه النواميس دورية، وأكثرها معلوم المواقيت، سوى البراكين، وهي مختلفةٌ عن رجفة الزلزال المفاجئ، الذي يقع على غير ميعاد، فيقشعرّ له جلد الأرض الثخين. ومع ذلك، وجد تجار السياسة والإعلام في الزلزال فوائد ومكاسب، غير العظة والاعتبار اللذين وجدهما المتّعظون، وأولها الصبر عند المكاره.
وكان إعلاميو الأسد ومرجفوه أول من استثمر في جماليات الأنقاض والدمار، فتباهوا بالردم والخراب، وعرضوا الاستثمار في اللوحات التي رسمها جند الأسد بالبراميل، ونحتوها بالمتفجّرات، كأمكنة تصوير سينمائية، ولوحات تشكيلية، وكان الممثل جاكي شان قد أرسل فريقًا لتصوير مشاهد فيلم عملية منزلية (هوم أوبريشن)، فزغرد بعض هؤلاء الإعلاميين طربًا بتحوّل خرائب السيد الرئيس إلى مدن تصوير سينمائية، وأملوا أن تصير سورية حجًا للتصوير السينمائي في أفلام الحرب والكوارث.
وكان أول تركي وجد في الزلزال عرضًا سياسيًا وحليفًا مستجدًا هو رئيس حزب الشعب الجمهوري وكبير الطاولة السداسية، كمال قلتشدار أوغلو، الذي استيقظ من الصدمة في اليوم الثاني، وخلع الحزن والخشوع، فاستصغر شأن الزلزال، واتهم حزب العدالة والتنمية (الحاكم) بالفساد العمراني، مع أنَّ البلديات التي تحكم هاتاي من حزب الشعب الجمهوري، ومنها تصدُر موافقات البناء ورخص العمران، وقُبض على مقاولين متحالفين مع الحزب، ولأحدهما صورة مع الزعيم "المسدّس" كمال أوغلو!
وسخر قليتشدار من ادّعاءات معادلة الزلزال عشرين قنبلة نووية، وقيل خمسمائة في الأيام اللاحقة، وقيل ألفين، ولم يعلم أنَّ قنبلتي هيروشيما وناغازاكي شقّتا الأرض شقًا، وتقديرها بالنووي أقوال مراكز علمية وأرصاد جيولوجية. واختلفت التقارير في تقدير قوة الزلزال التدميرية. وسارعت دول كثيرة إلى نجدة تركيا وإغاثتها بالمُنجدين، فالأيام دول، حتى إن اليونان، وهي عدوٌّ لدودٌ وقديم، ومثلها أرمينيا، بادرتا إلى إرسال فرق إنقاذ، لكن الأغراض ليست نبيلةً دائمًا، فقد أرسلت إسرائيل حرسًا لحماية المنقذين، فمانعت السلطات التركية، وكان عديد الفريق المرسَل مع الحرس 450 نفرًا! وظنّنا أنَّ غرض البعثة الإسرائيلية هو العرض الإعلامي، سترًا لمجازرها في فلسطين، ثم ظهر أنها قدمت للبحث عن مخطوط استير تحت الأنقاض، وقد عثرت عليه، واختلسته، لكنها اضطرّت إلى إعادته بعد مطالبة السلطات التركية به. أمّا فريق دولة الصين الشعبية فقد آثر التروّي والتمهل، وانتظر يومًا كاملًا حتى يحضر فريق هونغ كونغ، ليس لتصوير "هوم أوبريشن" ثانٍ، وإنما لأجل أداء النشيد الوطني، ثم رفعت علمها فوق العلم التركي، وتباهت التلفزيونات الصينية ببطولات فريق الإنقاذ الصيني، مع أنَّ الصور تبيّن اشتراك فرق أخرى قرغيزية وسودانية في صور الإنقاذ. ليست الصين وحدها التي سعت إلى استغلال طاقة الزلزال في العرض و"الشو" والدعاية والمباهاة بالإنسانية، فقد انتشر فيديو لفريق إعلامي سعودي يقابل امرأة سورية، قالت إنها زارت شقّة أهلها المدمّرة، واستنجدت من غير مجيب، فاضطرّت إلى نبش جثامين الضحايا بأظافرها، وأظهرت يديها للكاميرا فرأينا بعض الخدوش. وهنا سألها المذيع السعودي الأريب: وما رأيك بالفريق السعودي؟ فأثنت عليه كثير الثناء، وأقرّت عين المذيع السعودي الذي أغاث الملهوفين، ويبدو أنه سمع نداءها بجهاز "التلباثي". أما الفريق البريطاني فجاء لإنقاذ الأحياء، وتنصيرهم، وأظهرت فيديوهات تركية هداياه التبشيرية.
داخليًا، ازدهرت في تركيا تجارة الكرفانات، وهي الغرف المتنقلة على عجلات، فسارعت الشركات إلى إنتاجها وارتفع سعرها. وطرد العنصري زعيم حزب الظفر من مواقع الزلزال، وكذلك نبذت قناة فوكس التركية من لدن المنكوبين، وكتب أوزداغ على صفحته يتّهم السوريين بالإخلال بالتوازن الجيولوجي، وتطفيف الصفيحة التركية، وزعم أنَّ الصفيحة العربية ضرّة الصفيحة التركية هي سبب الخصومة بين الصفيحتين الجيولوجيتين!
سيكون لكهرمان مرعش صوت مرجّح في صندوق الانتخابات المنتظرة شرقاً وغرباً، فتركيا مقسومةٌ بين آسيا وأوروبا، نصف قلبها مع أوروبا، والصراع على أشدّه على هويّة تركيا، ويتنافس المتصارعون على الاستحواذ على صوت الزلزال، وما هو مؤكّد أنَّ المنقذين استخرجوا جثة بشّار السياسية من بين الأنقاض، فطار إلى سلطنة عُمان في طائرة رئاسية، وقد يُحتفل به كشهيدٍ حيٍّ صبر 12 سنة تحت الأنقاض من غير كباب ولا شراب.