راقصٌ أم نحلة؟
قال عالمون إن الرقصَ لغةُ النحل. وأفادنا دارسون بأن قبائل أفريقية تؤدّيه صلاةَ شكرٍ للآلهة. والمجلس الدولي للرقص (تقرّر في 1982)، التابع لمنظمة اليونسكو، شكا، مرّة، من أن أكثر من نصف دول العالم لا تخصّص في ميزانياتها تمويلا لدعم الرقص. ومن مهمّات المجلس هذا "زيادة الوعي بأهمية الرقص لدى الرأي العام". أما مفتتح هذه السطور بهذه الإشارات، فلأن شخصا "أحدث نقلةً في رقص الرجال يُؤرَّخ بها"، على ذمّة النبيل الراحل، يحيى حقّي، مات أخيرا عن 90 عاما، اسمه محمود رضا. وأظنّها تلك النقلة ما كانت لتصير، لولا أن هذا الراقص كان يرى نفسَه نحلةً. ولمّا أسّس وبنى، مع شقيقه الأكبر علي رضا، فرقة رضا، أحدسُ أنّه أراد الراقصين والراقصات فيها أن يكونوا كما النّحل. وظلّت الأكثر شهرةً بين الفرق الشعبية العربية، أزيد من ستة عقود، قبل أن تختلف الدنيا، وتتبدّل أمزجة الناس، ويستجدّ جيلٌ راهنٌ من الناشئة العرب فيه من لم يسمع بعد بأم كلثوم (ويحيى حقّي بداهةً). ولم يكن محمود رضا، في تصميماته رقصات الفرقة، المتنوّعة والغنية، بل والفاتنة في كثيرٍ منها، فلكلوريا محضا، أو فنانا شعبيا بالحرفيّة المألوفة لهذه التسمية، وإنما كان يضيف على الرقصات التي جمعها، وتعرّف إليها في جولاته في أرياف مصر وصعيدها ونجوعها وبواديها وواحاتها وقراها، وكان يحذف أيضا، و"يستلهم" مما يشاهد ويسمع، ويبثّ في ما يصنع كثيرا مما يريد، محافظا، في الوقت نفسه، على ما تجوز تسميتها روح الفلكلور. ولذلك، ربما جازف كثيرا شادي لويس في مقالةٍ، ذكيةٍ للحق، في موقع "المدن"، لمّا اعتبر أن محمود رضا "اخترع الفلكلور لمصر الناصرية".
مغريةٌ سيرة محمود رضا لإنجاز روايةٍ رائقةٍ منها، ومسلسلٍ تلفزيونيٍّ جذّاب، وفيلمٍ سينمائيٍّ جيد. سيما في بداياته راقصا في فرقةٍ أرجنتينيةٍ في السنوات الأولى من الخمسينيات، وتاليا في خواتيمها، طموحا ونشطا وواعدا، وقد شاهده في تلك الغضون يحيى حقّي، وكتب عنه في كتابٍ صدر في 1972 "القامة ممشوقةٌ لها هذا الجمع العجيب بين الإيحاء بالصلابة والإيحاء باللين". أنظر إليه في أفلامه (ثلاثتها من إخراج علي رضا) "غرام في الكرنك" (1967)، وبعده "حرامي الورقة" (1970) وقبلهما "إجازة نصف السنة" (1962)، وكذا في مناسباتٍ غير قليلةٍ بعدها وقبلها، تجد فنّا على فن، احترافا عاليا في تصميماتٍ راقصةٍ، وغنائياتٍ واستعراضاتٍ، تبتهج بخفّة الروح، وتفيد من فضاءات الأمكنة المتّسعة، وتستنفر طاقات الجسد، فترى تموجاتٍ من حركياتٍ لينةٍ ومطواعة، ومرنة، تنطق بما توحي به من معانٍ ومضامين، فترى أعراسا في أفراح، أو غناء صيادين، أو فلاحين في الغيطان، أو ناسا في البر، أو صبايا بالملايات اللّف، وكثيرا لا عدّ له من لوحاتٍ طافت بها فرقة رضا الأرض (باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي، على ما قرأت)، بإبداعات محمود وعلي، وغالبا مع موسيقات علي إسماعيل، وغناء محمد العزبي وغيره، وغواية فريدة فهمي (زوجة علي رضا)، الراقصة الأشهر في الفرقة، في ذلك الزمن الذي حقّ أن ترى تحية كاريوكا فيه نفسها جزءا من نهضةٍ ثقافيةٍ أساسية في مصر (وافقها إدوارد سعيد). وعندما تقول فريدة فهمي (80 عاما) التي اعتزلت في الثالثة والأربعين، إنها تأسف لحالٍ ليس مُرضيا صارت عليه الفرقة، فذلك من علامات بؤسٍ فادحٍ في مشهد فني مصري (وعربي) راهن.
لم تكن فريدة فهمي تُزجي رثاءً عارضا، عابرا مناسباتيّا مع جلال الموت، في غياب رجلٍ وصفوه أيقونةً وأسطورةً، لمّا قالت إن محمود رضا كان مُبهرا وجادّا وإداريا ونجما ممتازا. ولم يتزيّد من ذهبوا إلى أن تجربة هذا الفنان، لاعب الجمباز القديم، صارت واحدةً من تنويعات الجمال في ذاكرة المصريين. وهو الذي كان يرى الفلكلور ليس رقصا فقط، وإنما أيضا حكاياتٍ وخرافاتٍ وأزياء وموسيقى وأغانٍ وأساطير. وأظنّها هذه الرؤية هي التي جعلت تصميماتِه الاستعراضات والرقصات بالغنى الذي نعرف، والفرادة التي نفتقد. وقد كانت إطلالته الأخيرة قبل نحو عام، على مسرحٍ قاهري، تلويحة حنينٍ إلى زمنٍ بعيد، لمّا ماجَ بحركةٍ راقصةٍ خفيفةٍ، دقائق معدودات، أمام جمهورٍ فرِحٍ به، وبرفقة صبايا وشبّانٍ من فرقة رضا .. رأيتُه في مشهده الوداعي ذاك نحلةً، لا راقصا.