ربيعنا العربي مستمر ويتمدد
في ظل معطياتٍ هي الأسوأ عالميا، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والفكرية والاستراتيجية كافة، وتواصل تراجعات النخب المقرّبة من السلطة، وتردّي السلطويات الاستبدادية، تزداد الحاجة إلى معاودة فعاليات الربيع العربي، بإطلالاته المستجدّة مجدّدا، في فضاءات عديد من "الجمهوريات الملكية"، وأشباهها ومثيلاتها من سلطويات، التمعت في سماواتها الاستحواذية والاستملاكية، نجوم استبداداتٍ لم تتغير أو تتبدل على امتداد عقود من سنوات الجمر والغضب، وتهتك سلطويات الطغاة، على اختلاف طوائفها ووظائفها ومليشياتها التي أضحت هي ذاتها ركيزة القوى الرسمية المتحوّلة إلى سلطة عميقة، تنافح عن مصالحها ومصالح أسيادها من طغاة وأشباههم من زعامات الإقطاع السياسي والديني وأمراء وملوك الطوائف، الثابتين على سياسات الاستتباع والشخصنة والمصالح الشخصية والخاصة والزبائنية التي أفسدت طوائف وتمذهبات سياسية ودينية، بل بلادا بأكملها تجوّع من أجل أن تركع لقوى النظام العالمي الجديد، الآخذ بتسريع تبلوراته حينا بعد حين، بغرض الاقتراب أكثر من ربيب هذا النظام "كيان الاحتلال الاستيطاني" وتطبيع العلاقات معه، والسمسرة لصالحه بمحاولة العمل على إنهاء وكالة أونروا التي شكلت عنوانا بارزا لقضية اللاجئين الفلسطينيين وحق عودتهم، منذ احتلال فلسطين في العام 1948، وعقد صفقات تحالفية وتجارية واقتصادية وأمنية؛ كلها موجهة ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية، كما وحقوق الإنسان وحقوق الأوطان بالتحرّر والاستقلال.
لم يفت أوان الربيع العربي بعد، بل إن الحاجة وضرورات استمراره ما فتئت تقتضي تواصله، في أماكن حدثت فيها فعاليات الموجتين، الأولى والثانية منذ العام 2011، وصولا إلى فعاليات الموجة الثالثة في العامين 2019 و2020، وإلى توقعات تمدّدها في العام 2021، طالما لم تتحقق الأهداف التي انطلقت منها وبسببها أولى بشائر الربيع العربي، من منطلق تشابه السلطويات والنخب والأنظمة السياسية وعصاباتها الحاكمة، وانحطاط قطعان السلطة العميقة وتشبثها بمواقعها، ومزايداتها على أهل السلطة وتمسّكها باستبداد الطغاة، والمنافحة عنهم لصالح مصالحهم الخاصة والشخصية.
لذا نظلم ربيعنا، إن حكمنا عليه، كونه لم يحقّق كل المراد، كما نظلمه كذلك إن قلنا إنه حمل، في جيناته، كل أسباب الفشل، فالثورات وتجاربها وخبراتها ليست رهينة اللحظة، بقدر ما هي استمرار وتواصل، قد تتخلّلها انقطاعات في أحايين كثيرة، ولكن على عاتق القوى الثورية العمل على تطوير أساليب النضال، وتطوير خبراتها الكفاحية في ضوء تطوّر برامجها ومراجعاتها ونقدها على الدوام، فالثورة لا تبدأ بتوجيه ضربتها القاضية في ساعات فجر انطلاقتها الأولى، بقدر ما هي تسعى إلى تجميع كل القوى، وتكتيلها وحشدها، وهي المفترض أنها تسعى إلى التغيير، عبر بناء علاقات كفاحية، وتبنّي البرامج الأكثر نجاعةً لاستمرار الثورة، وتنفيذ التكتيكات الكفيلة بديمومتها حية، وصولا إلى تحقيق إنجازاتٍ ممكنةٍ على طريق التغيير المنشود.
الثورات وتجاربها وخبراتها ليست رهينة اللحظة، بقدر ما هي استمرار وتواصل، قد تتخلّلها انقطاعات
وإذا كان ثمّة أمل تتطلبه المراحل الثورية، فهو أمل الحفاظ على وضوح البرامج ووحدة الشعارات، وتضامن النخب وتكافلها، بقياداتها وكوادرها وقدرتها على الحشد والتنظيم الجماهيري، ورسم الخطط والبرامج التفصيلية ضمن البرنامج الأساس الذي تسعى الثورة إلى تحقيقه.
ثمّة حاجة وضرورة تلح على قوى الثورة اليوم، بضرورة مراجعة تجارب ثورات الربيع العربي، بكل ما حفلت به من إنجازاتٍ وإخفاقات، والاستفادة من مجموع الخبرات والتجارب المستحصلة، فمشوار ثورات ربيعنا العربي ما فتئ يواصل مسيرته الغضّة، ومن المبكر الحكم عليه بشكل كامل أو نهائي، طالما أن أنظمة الطغيان والاستبداد ما تني تذيق شعوبها ويلات العيش المر والظلامات التي بلا حدود، تحت ظلال سلطانها الجائر، وممالأة عصابات سلطاتها العميقة وتواطؤاتها.
وبالتأكيد في المرّة/ المرّات المقبلة، لا ينبغي لقوى الربيع العربي أن تكرّر إخفاقات المرّات السابقة، وما عاد في وسع سلطات القهر والغلبة النجاح في خداعها ومخادعاتها، فهي أضحت أكثر شفافية مما تعتقد، وأكثر انكشافا وانفضاحا في ارتكاباتها وسردياتها الموغلة في الفساد والنهب والسرقة والخيانات الوطنية، وتحالفاتها مع أعداء شعوبنا وأمتنا، واندراجها بكامل وعيها في مخططات النظام العالمي الجديد، وأربابه من أصحاب الكارتيلات المالية، وهم ينساقون بإشراف عصابات ومافيات الدولة/ الدول عندنا، إلى الدفع بالهندسات السكانية ديموغرافيا، نحو تقليص عدد السكان وتخفيضه؛ حتى ولو اقتضى الأمر شن حربٍ أو حروبٍ بيئية بيولوجية أو أمنية وعسكرية، والاستثمار بالإرهاب الدولي. ويتطلب هذا كله الحفاظ على الأنظمة السلطوية والاستبدادية، وإشراكها في مخططات ذاك النظام الكولونيالي القديم/ الجديد، الباحث عن تكديس الثروات والاستثمار بكل مقدّرات العالم لمصالحه الخاصة، عبر انقياده إلى ما يشبه حكومة عالمية غير منظورة تتحكّم بمقدرات دولٍ لم تعد موجودة فعليا، رؤوس سلطاتها وحتى حكوماتها تعين، ويتم اختيارها من الخارج؛ وإلا فإن الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي السمات الغالبة لنماذج الدول الفاشلة، على ما أضحت تعيشه دول الربيع العربي بغالبيتها.
لم يبق من الدولة سوى الاسم، في ظل تحوّلات "أهل الدولة" إلى مافياتٍ تعمل على سرقة (ونهب) أموال الدولة والناس
لم يعد الاستقرار السياسي إذا هو الأكثر أهمية في دول الربيع العربي، بقدر ما هو الأهم استقرار عصابات السلطويات، وما يحيطها من قوى سلطةٍ عميقةٍ انتهكت الدولة، وعملت على انهيارها، فلم يبق من الدولة سوى الاسم، في ظل تحوّلات "أهل الدولة" إلى مافياتٍ تعمل على سرقة (ونهب) أموال الدولة والناس، حتى المودعة في البنوك، والانحياز للعملات الأجنبية على حساب العملات الوطنية التي شهدت وتشهد انهياراتٍ ماحقة، وإفقارا بلا حدود، ومجاعاتٍ متلاحقة، حتى لناس الطبقات العليا والوسطى، فكيف بالطبقات الدنيا وما دون، والتي يجري سحقها عبر كونترول السلطة الحاكمة، وقطعان السلطة العميقة، الأكثر رثاثة، من قوى أمنية ومليشيات الزعامات الإقطاعية والطوائفية، وزعران الشوارع، ومن لفّ لفهم من مرتزقة قوى ثورة مضادّة، منظمة ومموّلة من قوى خارجية، يهمها بقاء السلطويات على حالها.
في ظل أوضاع كهذه، من الصعب، بل الاستحالة، عدم توقع حدوث موجات جديدة من ربيع عربي مستمر، وإن لم يكن بشكل متواصل، في بلدانٍ عديدة عاشت ربيعا سابقا، ولم تحسم قوى الثورة خلالها أمورها فيها بعد، ولكن طالما كانت الثورة فيها قد حصلت من قبل، فهي بالتأكيد يمكن أن تحصل ثانية وثالثة، وقد يتمدّد ربيع الثورات فيها، ليصل إلى بقاع لم يصل إليها من قبل.