رجال غسّان كنفاني
للراحل الباقي، غسّان كنفاني، ثلاثُ رواياتٍ لم يُكمل كتابتَها، وقد نُشرت كما تركَها. لو يبادر كاتبٌ (أو أكثر) إلى استكمال كتابتها، سيصنع مساراتٍ فيها ونهاياتٍ لها مما عنده، فتصبح هذه النصوص له. وبديهي أن غسّان، لو طال عمرُه القصير (استشهد في مثل هذا اليوم 8 يوليو/ تموز 1972، عن 36 عاما)، وأكمل "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"، لكتب ما يريد فيها من مساراتٍ ونهايات. .. صنع الروائي المصري، عمرو العادلي، شيئا آخر، نادرا، أظنّه غير مسبوقٍ عربيا، عندما "تدخّل" في نهاية أولى روايات كنفاني "رجال في الشمس" (1963)، ليبني روايةً أخرى، سمّاها "رجال غسان كنفاني" (مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2020)، لا لتكون فقط تحيّةً منه إلى الروائي (والقاص والمسرحي وكاتب المقالة والرسّام والمناضل والشهيد) الفلسطيني الشهير، ولا فقط إعجابا منه بالرواية التي لا يوجد كاتبٌ لم يتمنَّ أن يكون قد كتبَها، على ما قال، وإنما أيضا وأيضا، ليقترح محاولةً في اللعب الروائي، في تجريب نوعِ من "المعارضة" سردا، وإنْ نعرف "المعارضة" شعرا. .. يموت سعد وأبو قيس في الخزّان، قبل وصول سيارة أبو الخيزران إلى الكويت. أما مروان، أصغر الثلاثة، فكاد يختنق، رموه، كما لو أنه جثة، إلى جثتيهما، لكنه لم يمًت. يسأله المهرّب، السائق أبو الخيزران: لماذا لم تصرُخوا عندما تأخّرتُ عند نقطة التفتيش؟ لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان لتحافظوا على حياتكم؟".
ينجو مروان في رواية عمرو العادلي، ليأخذ موقع الشخصية المركزية فيها، في رحلة تغريبته المستجدّة، عندما يصادفه سائق شاحنةٍ مصري، العم منصور، ويأتي به إلى مصر، فيبقى فيها، زمن الرواية، منذ ما قبل هزيمة 1967 إلى تسلّم حسني مبارك الرئاسة في 1981. وفي مجرى السرد الذي ينهض على المونولوغ، وتيار الوعي، في المقاطع الأعرض في النص، نرانا في تيه مروان، وشيءٍ من تيه مصر والعم منصور، وتتقاطع ظلال فلسطين المتخيّلة في وجدان مروان وتتصادى مع زمنه الذي يكابد فيه في مصر، عندما يتزوّج، وعندما يتذكّر حبيبته البعيدة، صفية التي يأتي لها العادلي باسمها هذا من رواية غسّان "عائد إلى حيفا"، زوجة سعيد، وهما العائدان إلى المدينة المحتلة. وليس بعيدا عن هذا أن زكريا هو اسم سائق شاحنة، يتعرّف إليه مروان في غضون عمله في القاهرة، بعد غياب العم منصور وفقدانه في أثناء حرب 1967 (يعود في حرب 1973)، ويُغريه بالعمل في موقع إسرائيلي، بل و"ينظّر" للخيانة، وهو اسم شخصية الخائن والمغتصِب في "ما تبقّى لكم".
تُؤاخَذ "رجال غسان كنفاني" على تتابع بعض محكيّاتٍ فيها، عن مصادفاتٍ ووقائعَ غير مسوّغةٍ فنيا، وواقعيا إذا شئنا، فضلا عن إفراطٍ، في غير موضعٍ، في استسهال جريان الزمن، مع شيءٍ من تنميطٍ لبعض الشخصيات، غير أن الذي يُحسَب للرواية أنها اجتهدت، وبإيقاعٍ حسن، في أن تكون روايةً فلسطينيةً وغير فلسطينية، بمعنى أن موضوعة فلسطين مقيمةٌ في الذاكرة، في الحلم، في متخيّل، كما أنها مبثوثةٌ في إحالاتٍ إليها، قضيةً ومعنى، وبإيحاءاتٍ غالبا. وبالغ الدلالة، على مستويي الترميز والمرسَلة، أن غسّان كنفاني عندما وصف أبطاله في روايته، المركزية في المدوّنة الفلسطينية، رجالا، فإنما كان يستبطن انتقاصا من رجولتهم، عندما تنهض الرواية على إدانةٍ مضمرةٍ وظاهرة لهم. وفي عمل عمرو العادلي، نلقى سائق شاحنةٍ مصريا عند طريق السويس، يقول لمروان، عندما يعرف منه أنه فلسطيني: "بلدكم منكوب، لأن الجميع يعاملونه كما يعامل السائق الطريق، عندما يقع حادث مفاجئ، تسير السيارات في طريقها المعتاد، لا يتدخل أحد للمساعدة، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن السائقين جميعا في مأمن من الحوادث، رغم أن القضية كلها لا تحتاج إلا إلى رجال". ويستطرد السائق "عندما تعود إلى بلدك، قل للكبار فيها لا تصافحوا أعداءكم إلا وفي يدكم الأخرى سلاح، فالسلام الخالي من الأسلحة هو استسلام".
لا يعود مروان إلى فلسطين، في مختتم الرواية، هو الذي تلقّاه عمرو العادلي من غسّان كنفاني في عمر 16 عاما. يُصبح شيخا في 1981، تزوّج ابنة العم منصور، ولم يُنجب، تاه بين ذكرياتٍ احتشدت فيه، وظلت لها وطأتُها عليه. بدا حائرا، متردّدا، قويا وضعيفا، رجلا عن حقّ في غير مطرح. لم تنقصه الشجاعة، غير أن شجاعة ماما أمل، المرأة الأوضح، الأصلب، الأقوى، بدت كأنها القيمة التي تنطق بها الرواية، وإنْ مروان هو البطل، أو على الأصحّ متاهته، بعد نجاتِه من خزّان أبو الخيزران في رواية غسّان كنفاني ..