رجلٌ باع ظهره .. في "الأوسكار"
سيفوز، بعد غدٍ الأحد، أو لا يفوز، الفيلم العربي، أو التونسي تحديدا بحسب جنسية مخرجته، كوثر بن هنية، أو السوري باعتبار موضوعه، أو العربي الأجنبي لتعدّد المساهمات في إنتاجه، وفي مقدّمتها ميتافورا، "الرجل الذي باع ظهره"، سيفوز أو لا يفوز، بجائزة أكاديمية علوم الصور المتحرّكة وفنونها في لوس أنجليس (الأوسكار) لأفضل فيلم روائي أجنبي. ويتنافس عليها مع أربعة أفلام، وقد صعّده إلى القائمة القصيرة هذه، بعد تصفياتٍ سابقةٍ، تسعة آلاف مصوّت من صنّاع السينما. وإذا نال الجائزة الرفيعة، فإن غبطتنا، نحن الشغوفين بأي سينما عربيةٍ ناهضةٍ وطموحةٍ وجميلة، به ستتضاعف. وإذا لم يظفر بهذا التكريم في منصّة الأوسكار الباهظة المكانة، سنبقى على مقادير الغبطة نفسها، لا لشيءٍ إلا لأن فيلما عربيا وصل إلى هناك، وقد بنى مقولتَه على قيمة الحرية ونبذ استلابها، وعلى إدانة حالة الاهتراء الشنيعة التي صارت عليها سورية. وكذلك لأن الفيلم نجح في المحمول الجمالي الذي تخيّره في تظهير منطوقه، لمّا اختار فن التشكيل والصورة والرسم وإيحاءات الألوان مفرداتٍ فيه، توسّل بها إقامة التوازي الذي أراده في تشخيص التناقض بين الحرية شرطا للفنون وسلب الإنسان حرّيته عند تسليعه فُرجةً وحسب.
قولٌ مقبولٌ إن نهاية "الرجل الذي باع ظهره" على شيءٍ من التقليدية، عندما يعود الحبيبان إلى بعضهما، ويستعيدان نفسيهما في الوطن. لكن كوثر بن هنية، وهي كاتبة السيناريو أيضا، إنما رمت، في هذا الخيار، إلى تعزيز المقولة الأساس لفيلمها، انتصار إرادة الإنسان على عوائق حرّيته. ولمّا ذبح مسلّحون من تنظيم داعش بطل الفيلم، السوري العائد إلى مدينته الرّقة، ثم يلتبس الأمر، فيتبيّن للمشاهد أن هذا لم يحدُث (أو ربما حدث؟) فقد بدت هذه الحيلة، إن أمكنت تسميتها هكذا، إشارةً إلى التباس المشهد السوري كله. والراجح أن توفيق الفيلم في قصة "داعش" هذه لم يكن تامّا، غير أنه راجحٌ أن الإيحاء ظاهر في إقفال الفيلم على مشهد الفضاء المفتوح، بسماء زرقاء وديعة، وأرضٍ مزروعةٍ قدّامها خلاء، سهلٍ قدّامه جبل، ينظر إلى مدى هذا كله الحبيبان العائدان. لا ترى أنت عيونَهما، وإنما تراهما واقفيْن، عند عتبة بابٍ مفتوح. تراهما من الخلف، كما كنت ترى سام، وقد باع ظهرَه ليكون لوحةً في متحفٍ في بلجيكا، من الخلف، نصف عارٍ، ثابتا على مقعدٍ في متحف، قرب لوحاتٍ مُبروَزة، تجول أعين الزائرين عليها، وعلى ظهره، بعد أن رسم عليه فنانٌ لوحةً، هي ختم تأشيرة شينغن التي تعدّ من أحلام كثيرين في بلاد بائسة، منها سورية التي غادرها هذا الشاب تسلّلا إلى لبنان، ليعمل في ميكنة فراخ وصيصان، وليتلقط الطعام في حفلات افتتاح معارض فنية، وليسهر مع أصحابه، ثم ليهاجر إلى بلجيكا بالتأشيرة التي يسّرها له رسّام اللوحة وشما، ووقّع معه عقد البيع، بشروط يقبلها سام، وبمزايا يفرح بها، ليس فقط للهجرة نفسها، ولا لمال سيصير بين يديه، وإنما أيضا ليكون قرب حبيبته التي تزوّحت دبلوماسيا سوريا هناك، كأنها أيضا باعت شيئا منها، مثله.
هل سيغري الفيلم، وهو الروائي الخامس لمخرجته، في إضافته تنويعا خاصا مستوحى من واقعةٍ فنية، المصوّتين على "الأوسكار" بتكريمه بالجائزة، واقعة وشم الفنان البلجيكي، ديم ديلفوي، لمّا أنجز عملا فنيا على ظهر شاب سويسري، اشتهر باسم تيم. ولكن هنا وجع ثقيل، وفقر وهجرة، ووطن مدمّى، وآدمي ارتضى، لظروفه المُعسرة، أن يكون ظهره لوحةً، وأن يُستعبد مقابل أجر مجز وسفر. المفارقات في منجز كوثر بن هنية هنا غزيرة، لا توجَز في التضاد بين حرية إنسانٍ وتسليعه، وإنما تذهب إلى كوميديا ساخرة جعلت الفيلم أكثر جاذبيةً، وكذلك في التضاد بين ملامح الشاب سام، الوديعة الهادئة، المتكتّمة على غضب كثير، وقد أدّى الدور بكفاءة السوري الكندي، يحيى مهايني، والملامح الحادّة، الكلبية بتعبير جائز، والشيطانية على ما كتب من كتب، لدى الرسّام الوشّام، وأدّى دوره البلجيكي كون دو باو، وأيضا لدى مساعدته بأداء الإيطالية مونيكا بيلوتشي. وثمّة المفارقة الأشد وضوحا بين قسوة الاستلاب الذي ينشغل به الفيلم، وهو يخوض في موضوعة هجرات السوريين، وعوالم فنون التشكيل وصالات عرض اللوحات والمتاحف، حيث الهدوء والإيقاع البطيء وبهجة التلوين والألوان. ومن مفارقاتٍ أخرى أن الرسام، التاجر، لم يترك سام ليغادر، أو ليهرّبه ربما، إلا بعد أن انتزع من جلده عينةً، يزرعها في مختبر ليحصل على جلده فيرسم الوشم ثانية... وثانيةً، نغتبط إذا فاز الفيلم بأوسكار، وإذا لم يفز أيضا.