رجل شجاع اسمُه وليد دقّة
أصدرت، قبل أيام قليلة، المحكمة المركزية في اللد قراراً جديداً ترفُض فيه الإفراج المبكّر عن الأسير وليد دقّة الذي قضى 37 عاماً في سجون الاحتلال، وهي مدّة محكوميته بالسجن المؤبد التي انتهت في مارس/ آذار الماضي، لولا حكم إضافي صدر بحقّه بالسجن عامين آخرين، بتهمة إدخال هواتف نقّالة إلى رفاقه الأسرى، ما يعني أنّ الإفراج عنه سيتم عام 2025.
كم هو ثقيلٌ عدّ الأيام في سجن الرملة لرجلٍ يعاني من نوع نادر من مرض السرطان، ومن مشكلاتٍ خطيرة في الرئتين استوجبت استئصال أجزاء منهما. كم هو ثقيلُ الوطأة هذا الزمن الذي دفع الأسير وليد دقّة إلى غابة الأسئلة التي لا تنتهي، والتأمّل الذي يتاخم حدود الفلسفة، فإذا هو "زمنٌ موازٍ" كما كتب في رسالته اللافتة حقاً، والاستثنائية في التقاطاتها، إلى عزمي بشارة قبل نحو 17 عاماً.
أُلقي القبض على وليد عام 1986 بتهمة قتل جندي إسرائيلي، وحكم عليه بالمؤبّد مدى الحياة، قبل تحديد فترة محكوميته بـ37 عاماً، انتهت فعلياً قبل شهور قليلة، لكن وليد، وهو من مواطني منطقة المثلث في فلسطين عام 1948، لم يستسلم يوماً لفكرة العزل عن بقية العالم، وظلّ يكافح لإبقاء رابطته مع الخارج حيّة ودائمة ما أمكنه ذلك، حتى تحوّلت حياتُه إلى سلسلة انتصارات صغيرة، ولكن بالغة الأهمية على سجّانيه. ولو وجدت قصة حياته روائياً كبيراً أو كاتب سيناريو مبدعاً لتحوّلت إلى فيلم صادم وبديع، ينتصر فيه الأمل على اليأس، والسجين على الجلاد، والحياة نفسها على الموت.
جاءته صحافية شابة إلى السجن عام 1996 لتكتب عن أوضاع الأسرى، اسمُها سناء سلامة، وتكتب لصحيفة "الصبّار" التي تصدُر من يافا، فوقع في غرامها، وانتهى الأمر بهما إلى زواجٍ يكاد يكون نادراً في كلّ المقاييس في تاريخ الحركة الأسيرة.
يتقدّم الأسير وليد دقّة، عام 1999، بطلب إلى إدارة السجون للموافقة على زواجه، فيجيئه الرفض سريعاً، فكيف سيتزوج وهو في السجن؟ ولماذا تسمح له إدارة السجون بهزيمة فكرة السجن نفسها باعتباره عقاباً وعزلاً عن الحياة نفسها؟ لا يستسلم محمد، فيراسل عزمي بشارة، الذي كان آنذاك عضواً في الكنيست، فلا يخذُله ويتابع قضيّته مع وزير الأمن الداخلي والمسؤول عن السجون، في حينه، شلومو بن عامي، فيوافق الأخير على السماح للأسير بالزواج، بشرط أن يتم في السجن لا خارجه، وكانت فرصة وليد لا للزواج وحسب، بل لفرض شروطه أيضاً.
يشترط أن يكون الزفاف حقيقياً، بفستان زفافٍ للعروس وبسيارة فاخرة توصلها إلى السجن برفقة أفراد من عائلته وعائلتها، وبوجود أحد أصدقاء عُمره، وبطبلٍ وزمر. كأنها برهة مقذوفة خارج السجن كله، خارج الاحتلال، وتنتمي إلى فكرة الحرّية في معناها البسيط بأن تختار وأن تمضي في خيارك كقطط البيوت إذ تتمطّى، ناعسة، وآمنة، ومطمئنة، كأن اللحظة أبدٌ لا ينتهي، فوق فروع شجرة التين في بيت العائلة الكبير.
يحدُث ما يريده وليد، فلا يكتفي بذلك، فقد كان عليه أن يكسر جداراً آخر من السجن، أن يُنجب. يخاطب إدارة السجن للسماح له بالاختلاء بزوجته بغرض الإنجاب، لكنّ الإدارة ترفض، فيلجأ إلى القضاء الذي لا يُنصفه، فيعود إلى المحاولة والنضال 12 سنة، حتى يصل إلى نتيجة واحدة أمام رفض الاحتلال، أنّ عليه أن ينتصر فيلجأ إلى الحيلة، يهرّب نطفةً منه فتحمل زوجته بطفلته ميلاد التي أكملت ثلاثة أعوام من عمرها في فبراير/ شباط الماضي.
لا يكتفي وليد بهذا أيضاً، فعلى السجين أن يتحرّر من الداخل حتى لو كان مكبّلاً بالقيود. يكمل دراسته الجامعية عن بعد لينهي المرحلة الجامعية الأولى، وينال لاحقاً درجة الماجستير، ويؤلف الكتب والروايات والمقالات، وأهمها رسالته إلى عزمي بشارة والمعنونة "الزمن الموازي". بين هنا (السجن)، وهناك (الحياة في الخارج)، والتي تصلح لتكون جزءاً من مناهج التعليم في الدول العربية، لتعلم الناشئة أنّ ثمّة رجلاً شجاعاً يحتضر الآن، لم تستطع إسرائيل هزيمته طوال السنوات الـ37 في سجونها.