رحمة للعالمين "ما عدا سارة حجازي"
تمنحنا ذكرى رحيل الناشطة المصرية سارة حجازي ذكرى أخرى، ربما تنفع المؤمنين، وتشير إلى مواطن الخلل في تصوّراتهم بشأن ما يؤمنون به. انتحرت سارة لأنّها لم تتحمّل قسوة التجربة، حاولت أن تنجو، وفشلت، دفعت حياتها ثمنا لتصديقها آلامها. وحين ماتت، كانت أكبر مشكلات أصدقائها أنّهم يريدون من الآخرين احترام حُرمة الموت، وقداسة النفْس، وكرامة الإنسان، أيّ إنسان، وهي معانٍ أوّليّة في ثقافتنا، فالجميع، هنا، مسلمون بالاعتقاد أو بالتجربة، وبالتورّط، وبالولاءات الأولى، التي لا تذهب بعيداً كما يتصوّر بعض المُتمرّدين عليها.
يقول تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". يختصر الرسول والرسالة في قيمة الرحمة، وهي التي يحتاجها عالمنا أكثر من غيرها، وإذا كان في هذه الأرض ما يستحقّ الحياة، حقّاً، فهو كلّ ما يتّصل بها، أو يتفرّع منها؛ الرحمة بالخَلْق، كلّ الخَلْق، لأنّهم خَلْق؛ "لو خلقتموهم لرحمتموهم". فما معنى أن يموت أحدنا، ممّن لم يُؤذِ أحداً، أو لم يظلم أحداً، أو لم يعتدِ على حقّ أحد، ثمّ لا يكون له من بعضنا سوى ازدراءه والسخرية من تجربته، والتحذير من مشاعر الحزن عليه، بوصفها خطّة مدبرة بليل.
يتساءل خصوم الرحمة "المهداة" في استنكار: ولماذا نطلب لها الرحمة من إلهٍ لم تؤمن به؟ أليس ذلك عدم احترام لاختيارها؟ علينا، إذاً، أن نلعنها لنحترمها. تتجاوز "نُخَب" الأفظاظ وغلاظ القلوب سماجة السؤال إلى كشف خبايا حزن المحزونين، وما وراءه من أهداف خبيثة، فقد كانت "مثليّة" و"مُلحدة"، والحزن عليها ترميز لها، ومن ثمّ، لأفكارها، الأمر الذي يُهدّد الدين، طبعاً، فالازدراء والشتيمة واللعنات والسخرية، كلّها، أفعال دينية أُمرنا بها، وهي خالصة لوجه الله، ودفاعاً عن ديننا، وحصوننا المُهدّدة من الداخل والخارج.. ما سبق ليس فقرة الساحر في فرح شعبي، إنّما عشرات التعليقات الجادّة، وبعضها من مثقّفين.
هل هو تأثير الأفكار في أصحابها؟ لا أرى فكرة أكثر تبسيطاً مخلّاً من هذه، فالممارسات الجماعية لا تنتجها نصوص وأفكار، إنّما تعاد قراءة النصوص، وأحياناً اختراعها، من أجل تبرير "مزاج السواد"، تتجاوز هذا السلوكيات "الافتراسية" مجازات التصنيف إلى حقيقة واحدة وواضحة لأيّ مراقب لحسابات المصريين في مواقع التواصل الاجتماعي (وغيرهم من العرب الذين يعيشون في مجتمعات تعاني الأزمات نفسها)، وهي أنّ قطاعاً من هذا المجتمع توحّش، وما ذكرى سارة والجدال حولها سوى فرصة لمزيد من الاكتشاف.
إذا سحبنا نقاش سارة أو غيره على أرضية المتوحّشين، أو ما يزعمون إنّه الباعث على التوحش، لن نجد مخرجاً مقبولاً. فإذا كانت اختيارات سارة العقدية والجنسية سبباً في عذابها الأخروي، كما يعتقد "مجاهدو الهاها"، فإنّ رحمات لا تنتهي تأتينا من الخطاب التقليدي نفسه، رحمات من وصلته الرسالة مشوّهة فهو تحت رحمة الله، وهو رأي كثير من المتكلّمين، ورحمات الرحمن الرحيم الذي يغفر ما دون الشرك، والمثليّة ليست شركاً، ورحمات "وقولوا للناس حسنا" التي اقترنت في السياق القرآني بالتوحيد، هي لعموم الناس، كما تفيد الآية، التي ذهب بعض المفسّرين في بيانها إلى قول ابن عبّاس: "لو قال لي فرعون بارك الله فيك، لقلت وفيك". فمن أين تأتي كلّ هذه الوحشية في خطابات تزعم أنّها دينية؟
تذهب الإجابات الرائجة إلى النصوص وتفسيراتها، أو إلى التراث وحُمولاته، أو حتّى إلى الحركات الإسلامية وأجنداتها، وهي إجابات لا تفسّر وجوها أخرى من خطابات التوحّش، أقربها خطابات "حيوانات الوطنية المصرية" في مواقع التواصل الاجتماعي في التحريض على السودانيين والسوريين، وغيرهم من أهل البيت في مصر، وهي خطابات تتذرع، للمفارقة العبثية والعدمية، بالأمن القومي المصري، الذي يعرف أيّ قارئ، على خفيف، في أدبياته، أنّه يرتبط، ابتداء بالعمق السوري ثمّ بالسودان. تبدأ الإجابة، في تقديري، من المناخ المُحفّز على التوحّش، من عقد كامل من ممارسات سلطوية وحشية، اقتصادية وسياسية وأمنية وإعلامية، من هنا، يمكننا فهم ما يحدث، ومحاولة تفسيره وتجاوزه أو معاودة الفُرْجَة، وانتظار الفَرَج.