رسائل ضياء حمارشة
كانت العيون تبحلق في شاشات التلفزيون لمتابعة مباراة كرة القدم التي انتهت بإبعاد مصر عن المنافسات على كأس العالم في الدوحة، ثم انشدّت الحواسّ إلى ركلات الترجيج شديدة الحساسية، سيما وقد أضاع محمد صلاح إحداها. ولكن هذا كله لم يأخذنا، نحن جمعٌ من الأصحاب في مقهىً مفتوح، كما جموعٌ عربيةٌ بلا عدد في غير بلد، من ملاحقة أخبار عاجلة، ثم موجزة، كانت تتوالى، في الأثناء، على شاشات هواتفنا النقّالة، عن عمليةٍ فدائيةٍ جسورةٍ قرب تل أبيب قضى فيها خمسة إسرائيليين وأصيب ستة، ولم تنته المباراة إلا وقد عرفنا اسمَه، ضياء حمارشة، وعرفنا عمرَه 27 عاماً، ثم تتابع تلقّينا في الساعات المتبقية من النصف الأول من الليل تفاصيلَ مثيرةً عن الهجوم في غير شارع في شرق تل أبيب، مع مراقبة إخفاق الجزائر في الصعود إلى كأس العالم، وتأهل تونس والمغرب. حتى إذا صِرنا في النهار التالي نقرأ أكثر وأكثر، ومن بين ما قرأنا أن 26 مولوداً في فلسطين حتى الظهيرة سجّل ذووهم أسماءهم ضياء، اعتزازاً بالشهيد الذي فاجأ إسرائيل، كما فعل شجعانٌ قبلَه وآخرون سيفعلون بعدَه، بأن في وُسعها أن تُصدّر طائراتٍ مقاتلةً إلى الصين، وتقصف في تونس وسورية والعراق ولبنان و..، لكنها لن تقدر أبداً أن تحمي مواطنيها الإسرائيليين من غضب الفلسطيني. وهذه هي تُلملم أربعة وزراء خارجية عرب، وتجمعُهم في مستوطنةٍ عسكريةٍ وزراعيةٍ في النقب، فيما لا يُسعف هذا رعاياها بأي طمأنينة، وقد انقتل 11 منهم (كم عدد الجرحى؟) في أسبوع واحد، سبعةٌ منهم في عمليتي قنصٍ وطعنٍ سبقتا عملية الليلة قبل الماضية التي جعلت إسرائيل تستنفر في حالة "تأهبٍّ قصوى".
المضامين في عملية ضياء حمارشة كثيرة، تحمل عدّة رسائل، تبدأ من أنها في داخل الكيان الصهيوني، كما سابقتاها في الخضيرة وبئر السبع، وذلك فيما القلق الإسرائيلي من أن تشهد القدس، في ليالي شهر رمضان تحديداً، انتفاضةً متجدّدةً ضد الاحتلال والمحتلين الخائفين، وفيما تنشط اتصالاتٌ أردنيةٌ مع الجانب الإسرائيلي من أجل تيسير تبتلّ الفلسطينيين في الحرم القدسي في الشهر المبارك، وعدم ارتكاب ما يستفزّهم. ولكنّ الحسابات التي تنطق بها عملية تل أبيب، كما تمثلت في شجاعة ضياء حمارشة، ليست في هذا الموضع، وإنما في عمق القضية الجوهري، الاحتلال نفسه، والذي لا ينبغي أن يكون في مأمن، في أي مطرحٍ كان. وعندما يكون ضياء من بلدة يعبد في محافظة جنين في الضفة الغربية ويضرب في تل أبيب، فإنه يؤكّد المؤكّد عن وحدة فلسطين وشعبها، كما البديهيُّ الذي عوين في هبّة أيار العام الماضي، عندما تواصلت فلسطين، في اللد وقطاع غزة والقدس أمثلةً، في مواجهة المحتلين. ولمن تغريه المرموزات أن يرى شيئاً منها في توقيت عملية ضياء حمارشة عشيّة ذكرى يوم الأرض الذي انتفض فيه فلسطينيو الداخل المحتل في 1948 في عام 1976. أما أنها جاءت غداة جمع النقب فذلك مما في الوُسع النظر في محمولاته ومعانيه البعيدة، سيما وأن عبد الله بن زايد قال هناك، على مبعدة أمتارٍ من ضريح بن غوريون، إن بلاده أضاعت 43 عاماً، أي منذ إقامتها، من دون علاقةٍ (اقرأ تحالف) مع إسرائيل.
رسالةٌ أخرى تطيّرها العملية الشجاعة إلى من يهمهم الأمر (!)، أن ضياء حمارشة من مواليد ما بعد اتفاق أوسلو، ما يعني أن ثقافة السلام الزائف، وكذا الدعائيات السمجة في غضونها، لم تتمكّن من أفهامه ومداركه. ببساطةٍ، لأنه لم يُعاين أثراً لأي سلامٍ أو أمنٍ أو أمان، ولم يلحظ أفقاً لخلاص الفلسطيني من الاضطهاد والميز والاستيطان. وليس هذا الشاب متفرّداً في هذا، وإنما ثمّة القاعدة العريضة من المرابطين في الأرض هناك الذين عاينوا غير مذبحةٍ وعدوان، في مخيم جنين، مثلاً، قرب بلدة الشهيد ضياء، واحدةً من جرائم عملية السور الواقي، العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية قبل 19 عاماً، وقد استذكرَها وزير الحرب، غانتس، ساعاتٍ قبل أن يتجندل خمسةُ إسرائيليين برصاص ضياء حمارشة، الشاب الذي ليس من نافل القول أن يُشار إلى انتسابه إلى حركة فتح التي يقبض كثيرون من فتيتها وشبابها وشيوخها على جمرة المقاومة المسلحة، وإنْ ممن يُحسَبون قياداتٍ فيها على غير هذا الهوى.
إنها أعلاه بضعُ رسائل وحسب، يتلقّاها من يريد أن يتلقّاها من ضياء حمارشة، ثمّة كثيرٌ غيرُها مما في المقدور عدّها، من قبيل إننا في الوُسع أن نكون مع المقاومة في فلسطين، ونغتبط، في الوقت نفسه، لتونس والمغرب، ونأسى لمصر والجزائر في كرة القدم.