رسائل من تحت الأنقاض
رغم أنهم فقدوا كل الطرق للخروج والنجاة من تحت الأنقاض، ورغم أن الوصول إليهم بات مستحيلاً، إلا أن التكنولوجيا تصرّ أن تلعب لعبتها الموجعة. ولأنها، كما علمونا، حين كنّا صغاراً حالمين، أن التلفاز، وكان أكثر الأجهزة حداثة، سلاح ذو حدّيْن، فالهواتف الخلوية أيضا أصبحت سلاحاً ذا حدّين في هذه المقتلة الدائرة في غزّة، لأنها لعبت دور القاتل ببطء، ولأنها قتلت الأحياء قبل الأموات، بسبب قلة الحيلة والعجز، حين أرسل العالقون تحت الأنقاض رسائل من خلالها إلى أحبتهم، أو إلى رجال الإسعاف والإنقاذ، ولكنها كانت دائماً الرسائل الأخيرة، وبلا أملٍ في نجاة، حتى باتت تلك الرسائل شاهدةً على الإجرام والقتل المتعمّد.
قبل أيام، أرسلت إحدى الأمّهات رسالة موجعة إلى أطفالها، وحيث علقت تحت أنقاض بيت تم قصفه فوق رؤوس النازحين، الذين لاذوا به في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزّة، فأرسلت إليهم رسالتها الأخيرة من بين الأنقاض، فكتبت تقول: لا أتخيل أن أطفالي بحاجة لي ويشعرون بالخوف وينادونني، ولكنني لست قادرة على الذهاب إليهم، وإذا كان هذا آخر شيء يحدث معي فأنا أريد أن أخبرهم أنني أحبّهم، وأنني أعتذر لهم لأنني لم أستطع البقاء معهم طويلاً.
وقبل رسالة هذه الأم، التي قضت تحت الأنقاض متألمة ووحيدة وخائفة وحزينة، هناك رسائل لا تعدّ ولا تحصى لعالقين أرسلوا رسائل إلى أحبتهم، منها من يطلب مرسلها النجدة، ومن بينها من يرسل رسالته الأخيرة، وأكثرها وجعاً وألماً تلك التي كانت كلمات مقتضبة على غرار: أنا عالقة ولكني لا أشعر بشيء.
لك أن تتخيّل، من دون أن تتمادى في الخيال، لكي لا تتوجع أكثر، وتشعر بقساوة هذا العالم الذي يتشدّق بإنسانية جوفاء، لأن هذا العالم الساكت والمغمض العينين عن هؤلاء الناس الذين لا يموتون مرّة واحدة، بل يقضون تحت الأنقاض، وكان من الممكن إنقاذهم لولا القصف المحلق فوق سماء المكان، ما يجعل الاقتراب مستحيلاً، ومحاولة الإنقاذ تعني أن الموت سوف يلحق بمن سيحاول من دون تردّد، وكان من الممكن إنقاذهم، لو كانت هناك معدّات ثقيلة متطوّرة، مثل التي كنا نراها من خلال الشاشات، والتي استُخدمت لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض بفعل الزلازل، ولكن هنا في غزة سوف تصدم حين ترى أحد أفراد عائلة عالقة قد أمسك بمطرقة، وبدأ في محاولة يائسة وواهية في تحطيم قطع الإسمنت الضخمة، والتي تراكمت بعضها فوق بعض بسبب تكوّن المبنى المنهار من عدّة طوابق، ويبدو ذلك الذي يحاول تحطيم الكتل الإسمنتية تلك مثل الذي يحاول أن يصطاد سمكة قرش عملاقةٍ بصنّارة صيدٍ بدائية.
توجعك تلك المحاولات البائسة، وتؤلمك أكثر الرسائل المتبادلة بين من يحاول أن يحطم كتلة خرسانية بمطرقة والعالق تحت الأنقاض على مسافة بعيدة، حيث تسمع صوتاً واهناً، ولكنه عالقٌ ببعض الأمل الذي لا يلبث أن يتوارى، ويصمت المكان كله الصمت الأخير الذي يخبرك بأن الموت قد قال كلمته.
أما الرسائل التي لم تصل، فتلك فاجعة أخرى، ولكنك يمكن أن تقرأها حين ينتهي المشهد. وحين يصل المنقذون متأخرين، ويرون مشهداً لأب تبدو على جسمه آثار جروح وإصابات، وقد جفّ الدم فوقها، فيما وضع طفل صغير رأسه فوق ركبته، ولا تبدو عليه أي إصابة، ولكنه يبدو أنه قد بكى كثيراً، وقضى بعد موت الأب وقتاً لا يمكن وصفه، ففيما كان الأب ينزف والابن محاصراً، لم يستطع أحد الوصول إليهما، وتركهما الجميع لمصيرهما، خاصة بعدما خبا صوت الأب لضعفه، وبعدما استسلم الطفل الصغير للمصير نفسه، فوضع رأسه فوق ركبة أبيه ونام نومته الأخيرة.
لم يخبرنا أحدٌ بهذه الأحداث، ولكننا نتخيّلها، ويمكن لشخصٍ آخر لو رأى المشهد أن يتخيّله بطريقة أخرى. وفي النهاية، كل الرسائل من تحت الأنقاض صادمة، تدلّ على عجز من يرسلها، وعلى عجز من تصل إليه أو قد لا تصل، وربما تصل إليه متأخّرة جدّاً، وبعد أن تنهش دموع الحزنُ عينيْه فيعجز عن قراءتها.