رسالة إلى بايدن: لم نتوقّع هذا منكم
قبل نحو أربع سنوات، وجد كثيرون خارج الولايات المتّحدة أنفسهم مندفعين إلى تحيّزات عفوية تجاه أحد المُرشّحين لانتخابات الرئاسة في بلادكم. فهذا الحدث ينعكس على البشرية جميعها، وعلى العالم بأسره. وكان منافسك قد كافح من أجل بثّ كراهية الجنس غير الأبيض، وناصب المسلمين العداء، وقاد سياسة مُرتجَلَة، وبرع في تصوير نفسه حاكماً فرداً؛ يعرف وحده الطريق إلى الصواب السياسي، من غير حاجة إلى الرجوع إلى المؤسّسات أو استشارة أحد إلا اضطراراً وبما تُمليه القواعد الدستورية. وكان يَتصوّر أنّ دخوله البيت الأبيض، وإلى المكتب البيضاوي بالذات، يمنحه فرصة لتمديد مكوثه هناك، فقد راق له المكان، وأمتعته السلطة التي حظي بها.
ومقابل الرجل الذي أمضى حياته في عالم الأعمال والعقارات، كان هناك مرشّح آخر: سياسي مُحتَرِف، أمضى جُلّ عمره في الكونغرس، وفي لجانه الرئيسية، وجرّب حظّه في انتخابات الرئاسة من قبل، من دون أن يحالفه الحظّ، إلى أن حظي بثقة رئيسٍ سابق منحه موقع نائب الرئيس. وقد واظبتم طوال مسيرتكم السياسية، وبقدر من النجاح، على إظهار صورة السياسي الرصين، الذي يميل إلى الاعتدال، وإلى احترام الوظيفة العمومية واحترام الجمهور. وكان من الطبيعي آنذاك، قبل أربع سنوات، أن ينضمّ أناس بلا عدد إلى مؤيّديكم وداعميكم في بلادكم، وأن يروْا فيكم فرصةً لتصحيح مسار الرئاسة، وإعادة الهيبة إلى ذلك الموقع الفريد، وكان كاتب هذه الكلمات من جُملة مؤيّديكم، بل من المتحمّسين لكم، على الأقلّ تفادياً لوصول المرشّح الآخر، الذي كان رئيساً حينذاك. وقد بلغت الحماسة بصديق نابِهٍ، مُنحاز بدوره لكم، وهو "م. ب"، أن وصف نفسه، ونَعتَني معه، بأنّنا كنّا في تلك الانتخابات "من جماعة بايدن". ولن تتصوّر مدى فرحنا بفوزكم في الانتخابات، رغم أنّي وصديقي لم نزر أميركا، وليس لنا أدنى صلة ببلادكم الجميلة، إذ كنّا على قناعة بأنّ العالم سيكون أفضل أو أقلّ سوءاً تحت قيادتكم للدولة العظمى، وأنّكم ربما تكونون من طينة رؤساء مثل جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما، وعلى غرار رئيسين هما دوايت أيزنهاور (ألزم إسرائيل بالانسحاب من غزّة)، وجورج بوش (الأب).
دخان أصفر ينبعث في بلادكم، ونكاد نستنشقه في الشرق الأوسط؛ دخان المكارثية وقد تجدّدت بلبوس مختلف
وها هي أربع سنوات مضت متسارعة، وفيما أكتب هذه الكلمات، فإنّكم تثابرون في التحضيرلانتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وتتنازعون على الولايات مع منافسكم نفسه، وكأنّ المناسبة نفسها تتكرّر بشخوصها الرئيسيين، وبشأن الهدف ذاته، وهو قيادة الولايات المتّحدة، غير أنّ الأجواء العامة اختلفت عن قبل. لقد تقلّصت الاحتكاكات ضدّ الملوّنين، وانخفضت وتيرة العداء للمهاجرين، غير أنّ دخاناً أصفر ينبعث في بلادكم، ونكاد نستنشقه في الشرق الأوسط؛ دخان المكارثية وقد تجدّدت بلبوس مختلف، فطلبة الجامعات، مثل شطر كبير من أساتذتها، أصبحوا هدفاً للتنكيل ولشيطنتهم، لمجرّد أنّهم مارسوا حقّهم في حرّية التعبير، التي يضمنها الدستور، والنسبة الأكبر من هؤلاء هم إمّا من مؤيّديكم أو أنّهم أقرب إلى الحزب الديمقراطي. العداء لحرّية التعبير يجعل أميركا بلداً تسلّطياً وشمولياً لا مكان للتعدّدية فيه، وكان مروّعاً خروجكم للتصريح بأنّ تجمّعات هؤلاء وحيويتهم في التعبير تشكّل مساساً باليهود، علماً أنّ منظمات يهودية تقف إلى جانب حشود المحتجّين، وتتّخذ الموقف نفسه ضد حرب الإبادة في غزّة. وبينما تتوالى إبادة الأطفال والنساء، على الهواء، فإنّكم، ويا للغرابة! تستنتجون أنّ الدعوة إلى وقف الحرب تمثّل معاداة للسامية، مع أنّ الجديد النوعي، الذي يراه العالم كلّه رأي العين، هو استسهال ارتكاب محرقة ضدّ الفلسطينيين، واعتبار الفظائع التي تُرتكب على مدار الساعة مجرّد أخطاء، فيما هي جرائم ضدّ الإنسانية. ويدرك كلّ عاقل راشد أنّ حرب بنيامين نتنياهو هي حربٌ على البشر والشجر والحجر في غزّة، وعلى كلّ حيّ، وعلى كلّ موارد الحياة هناك. ومع ذلك، وقفتم إلى جانبه، ومكّنتموه من استخدام الأسلحة الأميركية لقصف كلّ المستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد، ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، ولم تدينوا مرّة هذه الفظائع، ولا دعوْتم مرّة إلى وقفها، واكتفيتم بترديد عبارات مدرسية عامة لا تُلزم سامعها بشيء، من قبيل: "يجب حماية المدنيين"، و"يتعيّن احترام القانون الدولي". لقد ردّدتم مع أركان إداراتكم هذه العبارات ألف مرّة خلال المائتي يوم الماضية من دون أن يتغيّر شيء، سوى مضاعفة دعم نتنياهو بمنحه مزيداً من المال، والتسليح من أموال دافعي الضرائب. من العسير اعتبار خلافاتكم معه ذات طابع سياسي، بل هي أقرب إلى "خلافات عائلية"؛ كأب "يعاقب" ابنه بمنحه مزيداً من الدعم كلّما ازداد خروج الابن عن القانون.
ومن المثير للسخرية أنّه بينما تدعم إدارتكم إحدى أبشع الحروب في التاريخ الحديث وأشدّها بربرية (تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة في هذا الصدد كاشفة)، فإنّكم لا تتوانون عن الحديث عن حلّ الدولتين، وعن حقّ الفلسطينيين في دولة مستقلة على أرضهم. هل تعتقدون، سيّدي، أنّ شنّ حرب إبادة على أكثر من مليوني إنسان يشقّ الطريق نحو السلام؟ أو أنّ دعم التطهير العرقي يُثبت الجدّية في العبور إلى حلّ سياسي للصراع؟ هل تعتقدون أنّ قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وبعضهم ما زال بأعداد كبيرة تحت الأنقاض، هي أخطاء جانبية يمكن غُفرانَها لمجرّد أنّ الضحايا فلسطينيين؟ هل سبق لكم أن سمعتم رجلاً أو امرأة في عالمنا يؤيّد تدمير كلّ المستشفيات وكلّ الجامعات وكلّ المدارس وكلّ المساجد، ويؤيّد منع الوقود والماء والكهرباء؟ أنتم أيّدتم ذلك بكلّ قوة، وبالصمت، وبإشاحة الوجه وإغماض العينيين، وبمُسامحة عُتاة المجرمين ممن يمارسون إرهاب الدولة ضد مدنيين عُزّل. ماذا يكون الإرهاب بحق السماء، سيد بايدن، إنّ لم يكن استهداف المدنيين والمرافق المدنية من أجل تحقيق غايات عسكرية وسياسية؟ كيف طاوعتكم نفسكم على دعم هذا التوحّش المقزّز؟
أميركا تستحقّ من هو أفضل ممن يغمض عينيه عن قتل آلاف الأطفال والنساء، ولا يُفكّر سوى في احتضان القَتَلَة، وتهدئة مشاعرهم
لن يحمل اللعب بالكلمات الناس على الاستقالة من إنسانيتهم، والتخلّي عن مداركهم العقلية، وعن مشاعرهم الطبيعية. في هذا الظرف الأليم، فإنّ مفهوم العداء للسامية يكتسب معنى ساطعاً محدداً، إذ يدلّ على العداء للفلسطينيين، وعلى شنّ حرب وحشية ضدهم. الـ26 مليار دولار سوف تستخدم في اقتراف مزيد من جرائم ضدّ المدنيين في غزّة، وفي الضفّة الغربية المحتلة، ما يُلطّخ شرف القرار السياسي في أميركا، ويدفع العالم للتوحّش، إذ إنّ هذه السابقة البغيضة سوف تشجّع حاكمين آخرين على اتباع السلوك نفسه ضدّ أقوام وأعراق وأديان أخرى، مع منع الصحافيين من الوصول إلى الميدان وقتلهم، كما هو حال هذه الحرب التي تستهدف كلّ من هو غير يهودي في أرض الأنبياء والسلام.
عليكم التشاؤم، سيد بايدن، من فرص الفوز في الانتخابات. فمن بُعْدٍ، تبدو شرائح المجتمع الحيّة، داخل الحزب الديمقراطي وخارجه، تبتعد عنكم، وليس من هم من أصول عربية ومسلمة فقط، وترى تلك الشرائح العريضة في سياستكم خطراً على صورة أميركا، وعلى السلام، وعلى البشرية، فقد نافستم دونالد ترامب، مع أسوأ ما في ذلك الرجل، وهي العنجهية الشديدة تجاه غير البيض، بالذات المسلمين الضحايا في غزّة، ومن شعروا بالخُذلان والطعن، لن تذهب أصواتهم لكم هذه المرّة، ولا إلى ترامب، بل إلى من يرون فيه تجسيداً للقيم الأميركية الباقية؛ قيم الحرّية والكرامة البشرية، حتى لو كانت فرص فوزه ضئيلة.
ربما كنّا مُخطئين وساذجين في الحماسة لكم قبل أربع سنوات، غير أن أحداً لم يكن يتوقّع، ولا في الكوابيس، أن تحظى حرب إبادة برعاية شاملة من إدارتكم، ولهذا السبب الشخصي توجّه هذه الرسالة إليكم. لقد نَجَحَتْ إدارتكم في خذلان الملايين داخل أميركا وخارجها، ولن ينجح الخداع مرة ثانية، فأميركا تستحقّ من هو أفضل ممن يُغمض عينيه عن قتل آلاف الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات والجامعات والمدارس ودور العبادة والمساكن، ولا يُفكّر سوى في احتضان القَتَلَة، وتهدئة مشاعرهم.