رسالة من قوميي المشرق إلى قوميي تونس
دعا رموز قوميون عرب إلى إطلاق سراح راشد الغنوشي وعصام الشابي وبقية المعتقلين من شخصيات الحركة الديمقراطية التونسية. كما طالبوا الأقطار العربية بإجراء حوار داخلي شامل وصريح بشأن القضايا الخلافية، من أجل حلول لكل المشكلات السياسية والاقتصادية. وأكدوا أن المنطقة "تحتاج إلى نبذ نهج الإقصاء الذي لم يجلب إلا البلاء". من الأسماء التي وقعت على هذا النداء الأمين العام للمؤتمر القومي العربي، حمدين صبّاحي، إلى جانب خالد السفياني ومعن بشور ومنير شفيق وغيرهم من شخصيات وازنة. أعرف معظمهم وتربطني بهم علاقات جيدة، وإن كانت متفاوتة من شخص إلى آخر. وتأتي أهمية البيان في أنه جاء معاكسا لمواقف القيادات القومية في تونس وتصريحاتها التي رحّبت بجميع الإيقافات التي جرت، وبالأخص اعتقال الغنوشي. ولم تكتف بذلك، بل برّرتها، واعتبرتها استجابة لمطالب شعبية، وخطوة نحو "الإصلاح الحقيقي" والبناء.
ذكّر الموقّعون على البيان بمبادئ عامة يُفترض أن يتبنّاها الجميع، وأن تكون محلّ إجماع. وعلى الرغم من ذلك، انفرد عموم القوميين التونسيين بتأويلٍ مختلف، ولهم أولويات أخرى يعتمدونها في تفسير الوقائع والأحداث.
جزء واسع من القوميين في العالم العربي غير مقتنعين حاليا بثلاث مسائل على الأقل، يعتبرها رفاقهم في تونس من الثوابت والمسلّمات، ويعادون كل من يختلف معهم أو يشكك في إحداها. تتعلق المسألة الأولى بالاغتيالات السياسية التي حصلت، ويعتبرون المسؤول عنها راشد الغنوشي وحركة النهضة، والبقية ليسوا سوى أدوات تنفيذ: السلفيون وكل من تعاون أو تحالف مع الإسلاميين. وهذه السردية التي هي ذاتها سردية اليسار الراديكالي بالخصوص، رغم أنها مبنية على مؤشّرات وفرضيات متفرّقة، يطغى عليها المنحى الأيديولوجي، ويبرز ذلك، في الخصوص، عند محاولة تفكيك هذه السردية ومناقشتها بهدوء وموضوعية. لهذا السبب، لم يتفاعل معظم رموز القومية العربية على الصعيد العربي مع هذه الرواية، ويدعون رفاقهم في تونس إلى التركيز على ما يقرّب ويحقّق المصالحة الوطنية.
أما المسألة الثانية فتتعلق بتوصيف الحالة السياسية الراهنة في تونس. ففي وقتٍ يحذّر كثيرون من انزلاق خطير نحو الاستبداد السياسي، وقيام حكم فردي وقاهر، يصرّ معظم القوميين في تونس على إضفاء الشرعية على ما يجري، وذلك بعد أن انخراطوا فيه كفاعلين رئيسيين، وأصبحوا جزءا رئيسيا في مشهد صوري، يعرفون جيدا أنه يقود البلاد نحو الكارثة.
أخيرا، التعامل مع الحرّيات والإجراءات الديمقراطية بطريقة عشوائية وبكثير من الانتقائية بلغت درجة السكوت عن انتهاكاتٍ مسّت بحقوق الأفراد والجماعات. وهو ما أدركت بعض الشخصيات القومية على الصعيد العربي خطورته وتداعياته السلبية مستقبلا على العائلة العروبية في تونس وخارجها. ويخشون من أن يكون التيار القومي التونسي لا يزال حبيس التجربة التاريخية التي وضعت الهوية والدولة القومية في مقابل الحرّيات والديمقراطية.
تعدّ الدعوة التي أطلقتها هذه الشخصيات مهمة ومتعدّدة الدلالات. وهي تتنزّل في ظرف تتسارع فيه الخطى نحو التقارب والتصالح، بعد أن هيمن الخطاب الحربي على الجميع، وأصبح كل طرفٍ يسعى بكل حماسة نحو تصفية من يعتبرهم خصوما لا يحقّ لهم الحياة والبقاء والتمتّع بالحقوق الدنيا.
لا نعلم إلى أي مدى ستؤثر هذه المبادرة في أوساط العروبيين في تونس، وتدفعهم إلى مراجعة مواقفهم وسياستهم، لكنهم لا يستطيعون تجاهلها، خصوصا أنها صادرة عن رموز لها تاريخ ودور في الساحة العربية، ويعتبر عديدون منهم بمثابة القدوة المرجعية لقوميين تونسيين عديدين.
بقطع النظر عما سبق، تأتي المبادرة في وقتها، قبل أن ينهار الحصن المدني كليا، ولتشكّل عاملا إضافيا من شأنه أن يزيد من عزلة المدافعين عن المشهد السياسي الراهن. ويؤكّد أن الحرية لا تتجزأ، وأن خطاب الكراهية والتمييز ونفي الآخر خطاب مميت ومرعب، وأن ما يحصل في تونس لا يهمّ التونسيين وحدهم، وإنما يهم قوى سياسية واجتماعية وثقافية عديدة متنوّعة في العالم العربي. فافتحوا عيونكم وارهفوا السمع، يا أولي الألباب.