رفح الفاضحة
كانت غزّة هي الكاشفة لكل المواقف الفردية والجماعية، لتضع المواطن العربي، من المحيط إلى الخليج، أمام واقع متجسّد لطالما حاول أصحابه إخفاءه أو تجميله أو التحايل عليه: قرّر العرب الرسميون أن ما تسمى وهمًا وكذبًا علاقات طبيعية مع الاحتلال الصهيوني هي قضيتهم المركزية وهمهم الأول.
صار هذا واقعًا مدركًا بالحواس الخمس. والحال كذلك، من الطبيعي أن تستمر إسرائيل في تقتيل الشعب الفلسطيني في غزّة وترحيله وتجويعه نصف عام كامل، من دون أن يتصدّى لها أحد من العرب الذين يرفلون في نعيم الأوصاف والألقاب المخيفة، فراعنة ونشامى وفهود وأسود ونمور، في وقت الذي يتنقل صهاينة الموساد والأجهزة الأمنية الأخرى بين عواصم عربية باتت ترى في الصفقات والهدن المؤقتة انتصاراً، وأداءً للواجب كما ينبغي تجاه الأشقّاء المذبوحين.
المواطن العربي الذي قرّر أن يحتشد في الشوارع والميادين من عمّان إلى الرباط وبغداد وصنعاء لمس الحقيقة بيده، وأدرك الواقع المرير، فحاول أن يدرأ عن نفسه عار الصمت المتواطئ على إبادة شعب وقتل قضية وفرض جغرافيا وتاريخ جديدين، ترفضه كل مرتكزات الهوية العربية، وتخاصمه معايير الأخلاق والقيم، وقبل ذلك القانون ومقتضيات العدل.
من هنا، يمكن فهم هذا الاحتشاد الشرس ضد الحراك المتصاعد في عواصم عربية، والذي بلغ ذروته في الأردن، حيث تحاصر الجماهير سفارة العدو كل ليلة، وتهتف للحقّ في المقاومة والحقّ في الحياة وتطلب التوقف عن تقديم الدعم الرسمي العربي للاحتلال، وتضغط من أجل منع إمداده عبر الجسور البرّية وقنوات التفاوض السرية بما يكفيه لكي يواصل المذبحة.
يزداد هذا الحراك توهجًا كلما بانت معالم الجريمة القادمة في رفح أكثر، إذ تتجمّع شواهد عديدة على أن محور حركة الدبلوماسية الأميركية والصهيونية الآن هو تنفيذ عملية السيطرة على رفح، مع محاولة تقليل الخسائر البشرية قدر الإمكان، حتى لو كان المعلن من التحرّكات واللقاءات يؤشّر إلى أن المستهدف إبرام صفقة تبادل للحصول على ما تبقّى من أسرى إسرائيليين لدى المقاومة.
الحاصل أن موضوع الأسرى لم يعد الشغل الشاغل للاحتلال، على الرغم من هذا التسخين الملحوظ على صعيد تظاهرات الأزرق والأبيض الصهيونية التي يحتضنها الإعلام العربي بحرارة مدهشة في مقابل التجاهل والتبريد الملحوظين للحراك الشعبي النبيل في الأردن، إذ تكشف حصيلة زيارات القادة العسكريين الإسرائيليين إلى واشنطن أن كل الجهد يتركّز الآن في موضوع اجتياح رفح وإتمام القضاء على المقاومة الفلسطينية، ثم إعادة هندسة قطاع غزّة سياسيّاً وجغرافيّاً بعد ذلك.
لا يتردّد الصهاينة في الإعلان عن أنهم مطمئنون إلى أن دولاً عربية ثلاثاً، يمكن تخمينها بسهولة، جاهزة لإرسال قوّات إلى القطاع بعد إتمام السيطرة عليه، لكي تتولى ضبط الحالة الأمنية فيه، وهو ما يعني مباشرة أن العرب سوف يتولّون حراسة الاحتلال من أي خطر محتمل لمقاومة فلسطينية.
لكي يحدُث هذا كله لا بد من اجتياح رفح، وهي العملية التي لا يزعج النظام المصري فيها سوى احتمالية اجتياز الفلسطينيين الفارّين من وحشية القصف الحدود المصرية، فيطلب من واشنطن تمويلاً وإمدادات للتصدّي لهذا الأمر.
من هنا يمكن القول إن رفح ستكون الفاضحة لكل أشكال التورّط العربي المباشر في إبادة غزّة، وهي الإبادة التي انتعشت معها خزائن وازدهرت أدوار وتوفرت فرص تكسب، فإذا كانت الجريمة على غزّة قد وجدت من العرب من يبرّر الصمت عليها بإدانة "7 أكتوبر"، فإن الثانية (رفح) عدوان صريح لا يمكن تبريرُه، ولا تكفي لردعه تصريحات فارغة تعلن رفضها العملية، نظريًا، بينما هي ضالعة في تمريرها عمليّاً، وهو موقف يدعو إلى السخرية، يشبه كثيرًا تصريح وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة عن معارضة بلاده التوغّل الإسرائيلي في رفح، في وقت يحارب أكثر من أربعة آلاف جندي فرنسي صهيوني في صفوف الاحتلال.
لو حدث واجتاح الصهيوني رفح فتأكّد أن ذلك ما كان ليتم لولا موافقة عربية صامتة، وخصوصاً من جهة القاهرة التي كانت ذات يوم على استعداد كامل لمحاربة الأتراك في سِرت الليبية (الخط الأحمر) كون الاقتراب منها مساسًا بالأمن القومي... رفح أقرب لمصر من سِرت، والأحوال فيها أكثر خطورة على أمنها القومي.