09 نوفمبر 2024
رواية شاعر أسير
ليس في وسعك، وأنت تقرأ رواية "نرجس العزلة" (نابلس، 2017)، أن لا يحتلّ مداركَك أن كاتبها باسم خندقجي (34 عاما) أسيرٌ فلسطيني، محكومٌ منذ اثني عشر عاما بثلاثة مؤبدات، لاتهامه بالمشاركة في التخطيط لعمليةٍ قُتل فيها ثلاثة إسرائيليين، وأنه يشارك الآن في إضراب الحرية والكرامة. غير أنك لا تُصادف في سطور الرواية (170 صفحة) إشارةً إلى أي سجنٍ. فيها عزلةٌ، لكنها ليست في حبسٍ أو زنزانة، وإنما هي عزلة بطل الرواية أسبوعاً في شقّته في نابلس، هو شاعر على مشارف الخمسين، بلا زوجةٍ أو أبناء. يستدعي إلى باله ضجرَه من كل شيء تقريبا، وحبّه القديم امرأة البدء، ".. وأول العشق وأول الدهشة"، اللاجئة من قضاء حيفا، والتي تبدو حلما يأتي ويغيب، وقد ارتبطت بزوجٍ "كأي فتاةٍ تتزوّج من قريبٍ لها على وجه السرعة"، تقيم معه في إحدى دول الخليج. ويستدعي الشاعر أيضا علاقته الراهنة بامرأةٍ أخرى، وصلته بثالثةٍ إنجليزية. وفي الأثناء، أمثلةً، تروح الرواية إلى الانتفاضة الأولى، وتطلّ على "أوسلو"، وعلى الانقسام الفلسطيني. ولا توفّر، على لسان بطلها الشاعر شيئا، ومن ذلك ثمّة سخطٌ على "مجتمعٍ ذكوريٍّ مقيت" قاسٍ على المرأة، وسخطٌ على قيادةٍ "عادت من الشتات بأضغاث حلمٍ تجسّد على الأرض بمقار الأجهزة الأمنية وشبه الوزارات والحكومات و...".
ثمّة كثيرٌ من "فشّة الخلق" في رواية باسم خندقجي، وهي الأولى له كتابةً، والثانية نشراً، بعد "مسك الكفاية" (2014) التي كتب زملاء أنها الأفضل فنيا وأسلوبيا ولغويا. والظاهر أن انشغالا بالمرأة مقيمٌ لدى كاتبهما، اليساري وعضو اللجنة المركزية في حزب الشعب الفلسطيني، فواحدةٌ من بطلتي ذلك العمل الخيزران، والدة هارون الرشيد، الجارية السابقة التي تمرّدت على السبي والاضطهاد. وللشاعر الأسير خندقجي دراسةٌ عن المرأة الفلسطينية، وفي روايته "نرجس العزلة"، نضَجَ البطل "في كل شيء سوى حب الوطن وامرأتين"، وتتنوّع النساء فيها، فمنهن أمٌّ تمارس الجنس مع أصحاب ابنها (!)، وقبل هذه وبعدها منهن أمهاتٌ مناضلاتٌ وأمهاتُ شهداء. وتحضر أيضا الفنانة، سناء موسى، التي يستمع الشاعر البطل في عزلته، وفي أثناء تداعياته واستيهاماته، إلى صوتها، وكان قد سمعه في حفلةٍ. إنه "ينسجم مع صوتها" و"يتوحّد بصوتها"، ويقول "أحسّ مدى وحدانية صوتها المتميز بالشغف.."، وهو الذي "التقى بصوتها وأنفاسها الجليلية". وباسم خندقجي يذيّل كل واحدٍ من فصول روايته بمقطعٍ شعري، أو قصيدة، وهو في الأصل شاعر، صدر له ديوانان في بيروت.
مقطع القول إنها روايةٌ ساخطةٌ على حال فلسطيني تعيس في خارج السجن الإسرائيلي الذي يُحتجز فيه كاتبُها، أسيرا فدائيا. فيها وعيٌ جارحٌ، ثوريٌّ من دون مكابرة، يعبّر عن نفسه بالمباشر الصريح كثيرا، وبالتوريات والمجازات، وبمقادير من مكرٍ يعتني بإقامة معادلاتٍ فنية متوازية مع حالة قلة الرضى تجاه كل شيء، كما في تعبيرات بطل الرواية السارد الطلق الكلام، في مونولوجاتٍ عابرةٍ لحكاياتٍ تتقاطع أزمنتُها وتلتقي كيفما اتفق، من قبيل التأشير إلى مفاوضاتٍ أنتجت "مشروع دولةٍ من إسمنتٍ ومنحٍ وقروضٍ وطحينٍ وتمثيلاتٍ ثقافيةٍ مختلةٍ ومشوّهة". وفي غضون الضجر في عزلة الأيام الثمانية، يقلّب الشاعر قنوات التلفزيون قدّامه، إلى أن يستقرّ "... على فضائية وطنه، قناة الدولة العتيدة".. و"يلحظ بؤس المذيعة التي تشتم، في سرّها وتقاسيم وجهها، تعاستها وقرفها من شحّ الإمكانيات وفشل المكياج، في مقارنتها مع مذيعةٍ عربيةٍ في فضائيةٍ إخباريةٍ أخرى".
يكتب باسم خندقجي إنّ "على فلسطين أن تحرّرنا لنحرّرها". وهذه معادلةٌ عويصةٌ، لا يقيمها الروائي الشاعر الأسير فقط بالنقد الحاد للحال الفلسطيني التعبان، اجتماعياً وسياسياً، وإنما أيضا بتعيين مسؤوليات الاحتلال، وفي تأكيد خيار مواجهته. فإنْ كانت "نرجس العزلة" واحدةً من أصواتٍ باتت غير قليلة، أخيرا، في تظهير الفلسطيني عارياً من أي أوهامٍ عن صورته، فإنها أيضا واضحةٌ في صوتها مع مقاومة المحتل. كيف لا وكاتبها مقاومٌ أسير، وينتصر على الزنزانة الإسرائيلية بإنتاج قصائد وروايات.. عسانا نقرأ.