رواية عن "كروان شهر رمضان"
"كروان شهر رمضان" واحدٌ من عدّة ألقابٍ استحقّها المنشد المُبتهل، الشيخ سيّد النقشبندي، الذي توفي، رحمه الله، في 1976 عن 56 عاماً، فهو أيضاً "صاحب الصوت الملائكي" و"قيثارة السماء" و"كروان الإنشاد الديني" و"إمام المدّاحين" و"أيقونة رمضان". استحقّ هذه الألقاب، لما كان عليه صوتُه في تلاوة القرآن الكريم وإقامة الأذان وإنشاد المدائح النبوية والابتهالات والتواشيح من سعةٍ وأناقةٍ وقوّةٍ وحلاوة. وهذا رمضان الكريم يهلّ، فتستعيدُ إذاعاتٌ وتلفزاتٌ عربيةٌ حضور ذلك الصوت الخالد في أثيرها وعلى شاشاتها. وقد انكتب أنّ الراحل الباقي ترك 120 ساعة مسجّلة من الأناشيد الدينية بصوته في الإذاعة والتلفزيون المصريين، وأكثر من 40 ابتهالاً، ذاع منها كثيراً الذي لحّنه (وغيرَه) بليغ حمدي الذي ساهم في شهرة النقشبندي في بلده مصر وخارجها، وفي تعريف أجيالٍ تعاقبت به.
محبّةً بالشيخ وصوتِه الأخّاذ، تنجذبُ الصحافية المصرية، ضياء رحمة، بعد نحو خمسة عقودٍ على رحيله، إلى شخصيّته وما فيها من إلهام، فتبني له "سيرةً متخيّلة" في أول روايةٍ تكتبها، "النقشبندي" (دار الشروق، القاهرة، 2021) تُؤالِف فيها بين الحقيقيّ والمتخيّل، بعد بحثٍ في أراشيف موثوقة، أمكنها منه الوقوفُ على وقائع غير قليلةٍ في سيرة صاحب الصوت العريض. وقد استحقّت الرواية جائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول (2021)، أُشيرَ في حيثيّات الفوز إلى "إحكامٍ لغويّ واضح" في النص، وإلى تقديمه "جانباً غير مرويٍّ عن شخصيةٍ ثريّة". ولا تتوسّل الكاتبة المجتهدة مبنىً خطّياً أفقياً للسرد في عملها الذي يتّصف بالبساطة والذكاء في آن، وإنما تأخُذ القارئ إلى سيرةٍ أخرى، موازيةٍ إلى حدٍّ أقل، لشابّةٍ لم تُصِب حنانا وحبّا في حياتها، الزوجية خصوصاً، نجدها تُرافق النقشبندي المُستعاد من وفاته، تسألُه وتُناجيه وتحكي معه، وهما يعبران شوارع ويمرّان في أرصفةٍ وميادين، يجيبُها عمّا تستوضحه من حياته، وتروي عنه وعنها، بلغة امرأةٍ تنتظر أملاً لا يأتي، وتُغالب حلماً لا يفارقها، وذلك في فصولٍ في الرواية تتناوب مع فصولٍ أخرى تُخبر بضمير الغائب عن مسار حياة النقشبندي، منذ ولادته لأبٍ يستشعر القارئ علاقةً صعبةً بينهما، وأمّ يطلقها الأب شحيحُ المشاعر، فتُغادر مع ابنهما الوحيد إلى بيت أخيها، في مدينةٍ أخرى، ثم تتزوّج، ويتزوّج الأب، قبل أن يتزوّج الفتى ابنة خاله، وقد تعلّم النشيد، وبدأ يتعرّف إلى أعلامِه وشيوخه. ثم تنعطف مساراتُ الرواية إلى ارتحالات الشيخ وموهبته وأسفاره (إلى سورية وغيرها) وأدائه الحجّ غير مرّة، ونشيده الأدعية والابتهالات في الإذاعة، مروراً بالمحكيّة الذائعة عن ذلك الابتهال (وغيره) بتلحين بليغ حمدي تلبيةً منهما لطلب الرئيس أنور السادات. وتُتوفّى زوجة الشيخ، فتُقنعه بناتُه بالزواج، فيفعل. وفي تتالي وقائع النجاح والشهرة، وكذا مكابداتٍ مع الحياة وصروفها، تعرّج الرواية على ما ليس ذائعاً من سيرة "القيثارة"، فتأتي على ما قد يبدو غير معهودٍ من المشايخ، ومما لا يُنقِص من مهابة بطل روايتنا وجلال مَُقامه، غير أن أبناءً وأحفاداً له تُغضبهم الرواية، وهي عملٌ فنيٌّ بداهةً، ويعلنون نيّتهم اللجوء إلى القضاء للاختصام مع الكاتبة ودار النشر.
بالتوازي، ثمّة "نصرة"، رفيقة الشيخ العائد من مماته، والحوار بين اثنيْهما في الرواية من أجمل ما ابتكرتْه ضياء رحمة، وقد أفاض فيه صاحب الحنجرة الصافية بما يوشّح شخصيّته من أبعادٍ كاشفة، تخصّ روحه ووجدانه، فنتعرّف إلى ما مواجعَ وآلامٍ نفسيةٍ فيه، مكتومةٍ أو معلنةٍ بعض الشيء. ليس فقط لمّا خذلته الإذاعة أول مرة، ولمّا ماتت زوجتُه التي ملأته بالحب، ولمّا مات أبوه فاسترجع مغادرته منزل صباه الأول، وإنما أيضاً ما غالبه من أشواقٍ إلى راحةٍ أخرى لم تتيسّر له، وهو يصارع حياةً تناوب فيها الشقاءُ والتعب (ونوباتُ فشلٍ أولى) مع مؤانسة الله ومناجاته، والشيخُ متصوّفٌ يزورُه أولياء في المنام، وفيه مما ينفع رفيقتَه من نصح، في مواجهة همومها، وفي غضون بحثها عن هناءة بالٍ غائبة. وهو الشيخ الذي يحبّ غناء أم كلثوم وصوت عبد الوهاب وألحانَه، بل وأدّى دوراً في فيلم سينمائي لم يكتمل، ولا يُلزِم بناته بلبس الحجاب.
إن تُغوِ شخصياتُ مشاهير في السياسة والتاريخ والفنون (والحروب) الروائيين باستيحاء سيرِهم، فإن مُقرئاً ومنشداً استثار انجذاب كاتبةٍ شابّةٍ إلى صوتِه السخيّ الشاسع، فصنَعت روايةً على قدرٍ طيّب من التوفيق والمتعة والنباهة. رحم الله كروان شهر رمضان، شيخنا الباقي سيّد النقشبندي.