رواية منتصرة لجيل مهزوم!
قامت ثورة يناير في مصر، بعد عملٍ متواصلٍ سبع سنوات، بدأته حركة كفاية (الحركة المصرية من أجل التغيير)، قوى ديمقراطية متنوعة، وشباب تجاوزوا ولاءاتهم الأيديولوجية الأولى طلبا لغد مختلف، كانت الميادين واضحة، يصعب تأويلها على غير حقيقتها، فشلت محاولات إعلام الدولة في وصم الميدان بأنه لفصيل واحد، واستخدام فزاعة الإخوان المسلمين، لم يخل الميدان في أيامه الأولى من إسلاميين، طبعا، إلا أن المشترك بين الجميع كان هوية الميدان، شعارات مدنية جامعة، عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية. تجاوزنا ذلك كله، بعد رحيل حسني مبارك، وبدأت صراعات الهوية، مع استفتاء "مارس" (العام 2011) على التعديلات الدستورية، من غزوة الصناديق وأنت طالع. تحولت الثورة إلى ساحة اقتتال، من هنا دخل عساكر مبارك. وبعد قليل، عادوا، بحجة حماية الجميع من الجميع، وهي حجّة لا تفتقر، في أحد وجوهها، إلى الصحة، بكل أسف.
هي الهزيمة إذن، هُزمنا، وانسحقت التجربة، قبل أن تبدأ، داستها دبابات الجيش، هرستها، ساوتها بالأسفلت، وجاء وزير الدفاع رئيسا للجمهورية، واعتبر نفسه مدنيا، واعتبره أنصاره كذلك، فهل هذا هو كل شيء؟ يجيب عبد الفتاح السيسي ويقول: لا .. يخبر عمرو أديب أن "حالة" الثورة ما زالت موجودة، لا يعني ذلك إمكانية تكرّرها على النحو الذي شهدته يناير، لا يناير أخرى في القريب. هذا بديهي، لكن الحالة، وفق السيسي وأجهزته، مستمرّة، ولو أردنا تدليلا أوضح وأعمق فهو مسلسل الاختيار، في جزئه الثاني، رواية النظام عن مذابح ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، وهي الرواية التي لم تخل، بدورها، من حقيقة، إلا أنها في مجملها تحمل الكثير من "التزوير"، وهو ما استقبله بعض المشاهدين بغضب، فيما اعتبره آخرون كوميديا.
كان من الممكن ألا تكذب الدولة، وأن تكتفي باللعب على أخطاء "الإخوان"، وتضخيمها، وتعرض الجزء الذي يخصّها كما حدث، بتجاوزاته، وجرائمه. ولم يكن مؤيدوها ليعترضوا، فهم مستعدّون لتقبل أي شيء، وتبريره، وتمريره، تحت لافتات حماية الدولة، فريق عن قناعة، وآخر عن مكايدة للثورة أو "الإخوان"، وثالث منتفع. إلا أن المسلسل تجاوز الفرق الثلاث، وتجاوز "الإخوان" أيضا، وقدم روايةً تخاطب "وعي" ثورة يناير الحقوقي، الضابط الذي أرادته يناير، المهني، المحترف، الذي لا يتجاوز القانون، الضابط الذي لا يعتدي على أهل المتهم، ولا يسمح لرجاله بتدمير محتويات بيتهم وسرقة فلوسهم ومصوغاتهم وموبايلاتهم، الضابط الذي لا يوجّه السلاح إلا لمسلّح، ولا يقتل جريحا، بل يطلب له الإسعاف، ولا يحقّق مع متهم بشكل انفعالي. وإذا أفلتت أعصابه، فهو بشر، أدركه رئيسه، وأمره بالانصراف، وأوكل مهمته إلى غيره. ظهر الضباط كما أردنا وطالبنا، لا كما رأينا، ونرى، (وسنرى). بالمناسبة، الأمر نفسه تكرّر، في رواية الإخوان المسلمين، بعد مذبحة ميدان رابعة. كان الخطاب هو "الشرعية والشريعة"، و"بالروح والدم نفديك يا إسلام". صار بعد ضياع السلطة هو الشرعية الدستورية والتجربة الديمقراطية والحكم المدني ومن جاء بالصندوق يرحل بالصندوق، وهي خطابات "يناير" ومقرّراتها الذي عمل طرفا الصراع، العسكر و"الإخوان"، على إزاحتها، وقت التمكين، لصالح خطاباتٍ استبداديةٍ واستعلائية، بمبرّرات شرعية أو وطنية.
هذه هي الرواية التي لا يمكن تجاوزها، مع استمرار حالة الثورة، كما قال عبد الفتاح السيسي، والتي لا يمكن تجاوز أصحابها، على الرغم من ضعف قوتهم، وقلة حيلتهم، وهوانهم على الناس، تبقى روايتهم، من دونهم، منتصرة، وباقية، لأنها الأنسب والأوقع، ولا يملك خصومها إلا الاعتراف بها، والاحتماء بها، وقت اللزوم. لا يعني ذلك الانتصار بألف ولام التعريف، ولا يعني الهزيمة النهائية. إنما يعني، كما قال السيسي بالضبط، استمرار "الحالة".. السيولة.. القلق.. الكراهية.. العدوانية، والمجتمع الذي يستحيل استمراره بهذا الشكل.
تحتاج مصر إلى الأطراف كافة، مهما تخيّل طرفٌ قدرته على الاستمرار من دون الآخر، تحتاج إلى من يحمونها بأسلحتهم وخبراتهم، ومن يجدّدون شبابها بأفكارهم، تحتاج إلى منجز "حقيقي" يجعل من الاعتراف بالمنجزات الأخرى مفهوما ومبرّرا. إنجاز "مصالحة سياسية"، وإجراءات عدالة انتقالية، وتحول ديمقراطي، تدريجي، هو "الاختيار" الواقعي، و"المنجز" الأهم.