روبنسون كروزو في لبنان
في رواية "روبنسون كروزو" للكاتب البريطاني دانيال ديفو، رحلة في الخيال إلى جزيرة وصل إليها بطل الرواية بعد غرق سفينته. عاش هناك نحو 36 عاماً بعيداً عن بلاده. تعلّم كيفية البقاء على قيد الحياة، من دون الاحتكاك مع بشر، ولا معرفة ما يجري في العالم الخارجي، مطوّراً قدراته الخاصة، بدءاً من اكتشاف الجزيرة، وصولاً إلى اللقاء مع أفراد قبائل يعيشون فيها. قد تكون تلك الرواية مكثفةً لجهة قدرة الإنسان على الصمود في عزلة، أو تحصين نفسه حيال أي إعصار أو عاصفة أو حتى زلزال، إلا أنها تُظهر جانباً آخر إزاء عجزه عن فعل كل شيء بمفرده، خصوصاً في حال أُصيب بالمرض، أو تعرّض لأمرٍ ما من دون وجود من يعاونه. في رحلة كروزو كثير من "لبنانيّة" اللحظة. قد ينجح اللبنانيون في الصمود ردحاً من الزمن، لكنهم في النهاية سيسقطون. لن يكون السقوط مفاجئاً. التراكمات السلبية أكبر من أن يتم تجاهلها في أي رحلة عودةٍ مستقبلية. لا بدّ أولا من الاقتناع بوجود مشكلةٍ لحلّها، قبل التفكير بأي محاولةٍ إنقاذية. كل منزل تقريباً في لبنان يدرك أنه لن تقوم قائمة للبلاد، على الرغم من الحديث عن مشاريع قوانين وغيرها. لا بدّ للبنان من إتمام سقوطه بداية، من أجل بناء قيامةٍ مغايرة. لا يتعلّق الأمر بأمنيةٍ ما، أو توقّع ما، بل إن سلوك أركان النظام اللبناني، موالاة ومعارضة ومستقلين، تشي بهذه الحتمية.
يُمكن قراءة الأمر في إطار تلاقي سلبية المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مسار واحد، أشبه بكرة ثلجٍ تتدحرج. لا يُمكن لأي عاقلٍ وقف كرة ثلج تكبر بأساليب مستوحاةٍ من "ديمقراطية لبنان التوافقية"، التي هي تلاحم أمراء الحرب والمصرفيين ورجال الأعمال ورجال الدين في صياغة نظام مافياويّ تمّ تشريعه بعنوان "لبنان الرسالة". في المقابل، لا يُمكن لأي أحد اعتبار نفسه غير معنيّ بما يحصل. صحيحٌ أن تفاوت المسؤولية واضح، لكنه لا يعفي أحداً منها. حالة ما قبل الإنكار عموماً تسبق لحظة الحقيقة. مثلاً، يُمكن لمتّهم في قضية ما أن يجادل فترة طويلة في ارتكابه جريمة، مستعيناً بجيشٍ من المحامين، لكنه في لحظة ظهور الحقيقة يجمّد تفكيره، ولا يعود أمامه سوى إنكارها من دون أدلّة ولا وقائع، ثم يتحوّل إلى الانفعال العاطفي، سواء بالبكاء أو الضحك. في تلك اللحظة، يتأكد جميع من في المحكمة، من قضاة ومحامين وهيئة محلّفين وحضور، أن المتهم فعلاً كان مرتكباً. كذلك في لبنان، الجميع يمرّ حالياً بفترة ما قبل حالة الإنكار. يظهر ذلك في طريقة تعاطيهم عبر الإعلام مع الناس. بدأ بعضهم يترنّح، تحديداً بعد بروز تململ في صفوف القوى الأمنية التي باتت رواتب عناصرها لا تكفي لتمرير يومين من كل شهر، وفقاً لمؤشّرات غلاء المعيشة.
هنا لا يجوز السؤال: "ما الذي يُمكن فعله لوقف انهيار لبنان؟"، بل "ما الذي سنفعله حين ينهار لبنان؟". عادة، تعتمد الشركات التي تُشهر إفلاسها مساراً قانونياً ومالياً، يسمح لها في الحدّ من خسائر مستثمريها، إلا أن العشوائية اللبنانية تبدو غريبةً في كل شيء. لا أرقام دقيقة في كل ما يتم تداوله إعلامياً عن الأموال والودائع، ولا سياسة واضحة إزاء أي انهيار مرتقب، بل مجرّد اجتماعات رسمية معلوكة ومواقف إعلامية سخيفة، تؤكد لنا تفاهة طبقتنا السياسية. العبثية القاتلة أساس "الديمقراطية التوافقية".
وفي طقوس ما قبل الانهيار توظيف متزايد لأنصار الأحزاب، من أجل رمي المسؤولية على الآخر. في النهاية، هؤلاء جزء أساسي من حالة الإنكار المتسارعة، قبل تفعيل خاصية "الانفعال العاطفي"، ثم يصلون إلى خلاصةٍ مفادها "لو استمعوا إليه (الزعيم) لما وصلنا إلى الانهيار"، لتكتمل معها صورة مثالية لتراجيديا لبنانية.