روح رحبعام زئيفي
لم يكن الإسرائيلي العنصري، رحبعام زئيفي، يرى ضرورةً لأن ترافقه حراسةٌ أمنيةٌ (من المخابرات)، إبّان كان وزيراً في حكومة أرييل شارون (2001- 2006) لقناعته بأن الفلسطينيين أقلّ من أن يفكّروا باستهدافه، سيّما أنهم، بحسب أزعومته، "غرباء" في "أرض إسرائيل"، وهم الأوْلى أن يطلبوا الحراسة. وهناك، في فندق في القدس، في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، أرداه شابٌّ فلسطيني من الجبهة الشعبية، بتغطيةٍ من رفيقيْن له، بثلاث رصاصات في رأسه. يأتي إلى البال بمحكيّة هذا المتطرّف، وهو جنرال سابق في جيش الاحتلال، ما نشرته (أو كشفته) صحيفتا يديعوت أحرونوت العبرية ونيويورك تايمز الأميركية، أن خطّة حركة حماس الهجومية، التي جرى تنفيذها في 7 أكتوبر على معسكراتٍ ومستوطناتٍ في غلاف غزّة، وقعت وثيقةٌ توضِح خطوطَها وشيئاً من تفاصيلها (40 صفحة) لدى جيش الاحتلال والمخابرات قبل عام، غير أن مسؤولين كباراً فيهما رأوْها مغاليةًً في "طموحها"، و"خياليّة". الأمر الذي لا يُعيد ما جرى إلى فشلٍ استخباري، وإنما إلى تلبّس روح رحبعام زئيفي في هؤلاء. لم تنطق الخطّة بموعد التنفيذ، لكنها شابهت، إلى حد كبير، ما أعملته كتائب عز الدين القسّام (وسرايا القدس) في فجر ذلك السبت. لقد أعطى الإسرائيليون اسم "جدار أريحا" للعمليّة التي تضمّنت الوثيقة أهدافها وكيفيّتها، وهي تبدأ بآيةٍ قرآنيةٍ، تتكرّر في بيانات "حماس" وفيديوهاتها.
يمكن، إذاً، القول، إن كلّ الحقّ على رحبعام زئيفي، الذي انقتل في عامه الـ75، إذ تتوطّن عقيدتُه، التي تُبخّس من كفاءة الفلسطينيين في التخطيط والتدريب والتنفيذ، في أفهام القائمين على مؤسّسات الأمن والاستخبارات في دولة الاحتلال، ولكن هؤلاء يتناسوْن أن فائض الثقة في شعورِه بالأمن والأمان، وهو يتمشّى في بهو فندق، هو ما جعلَه صريعاً، لمّا اقتصّ به الشبّان المقاومون من جريمة اغتيال أبو علي مصطفى. كما أنهم أرادوا أن "يعلّموا" على المجانين من صهاينة العنصرية الوضيعة، فكثيراً ما ردّد زئيفي إن الفلسطينيين (وعموم العرب) نملٌ وحشراتٌ وقمل وسرطان، وكأن بذاءة وزير الحرب الراهن، غالانت، عن أهل غزّة (حيوانات بشرية) رجع صدى لبذاءات معلّمه القتيل. ولمّا نلقاهُم، رؤوسَ العدوان الحاليين، يتبارون في وضع خطط تهجير الغزّيين من القطاع، فإنهم أيضاً يستلهمون من ذلك الوزير أفكاره العتيقة، والمؤسِّسة إلى حدّ ما، فهو دونه خرط القتاد في الدعوة إلى التطهير العرقي، فقد أسّس حركةً عنصريةً، طالبت بطرد الفلسطينيين الباقين في وطنهم المحتل 1948 إلى دولٍ عربيةٍ مجاورة، ثم ما انفكّ يلحّ على طرد كل الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزّة أيضاً.
في الوسع أن يزعم صاحب هذه السطور إنّ رحبعام زئيفي هو المسؤول الإسرائيلي الأول عن كل تلك الدّعة في صبيحة 7 أكتوبر، الدّعة التي كانت تستبدّ بالعسكر وعموم المستوطنين والمسؤولين عن أمنهم وأمانهم. بدليل تفاصيل المراسلات غير القليلة بين القائمين على أمن دولة الاحتلال، وهم يخوضون في شأن "جدار أريحا". بل أفاد محلّلٌ في الاستخبارات الإسرائيلية أفاد، في يوليو/ تموز الماضي، بأن "حماس" أجرَت تدريباً مكثّفاً يشابه ما قرأوه في الخطّة، المُصمّمة من أجل "بدء حرب"، على ما قال. ولكن هيهات، أطلّ رحبعام زئيفي، شبحاً وروحاً، فلم يُؤخَذ التحذير بالجدّية المطلوبة... ثم كان ما كان. تساقط قتلى من الجيش وعساكر الحماية، وخُطف مدنيون وجنودٌ وضبّاطٌ ونساء وأطفال (وعمّال تايلنديون و...)، في "أخطر يوم في تاريخ إسرائيل" (بحسب وصف فهمي هويدي محقّاً). ثم جاء العدوان الانتقامي بالغ الشراسة، كأن الذين هيّأوا خطَطه بارتجالٍ وسرعة، وحدّدوا قوّةً أقسى ونيراناً أشدّ، تمثّلوا قولة شارون، رئيس الحكومة التي كان زئيفي وزيراً فيها (للسياحة!)، "إنّ كل شيءٍ تغيّر"، فصارت استباحاتُ الضفة وجرائم القتل والاغتيال والاعتقال إيّاها، وبعد أعوام، صار على كل مدرسةٍ في دولة الاحتلال إحياء ذكرى مقتل زئيفي.
وأيضا، يُفاوض الإسرائيليون حركة حماس، بكيفيّةٍ غير مباشرة، من أجل الإفراج عن المحتجزين الرهائن، وفي رأس كل واحدٍ منهم دماغُ زئيفي، بالغطرسة والفوقيّة إياهما، وبالكذب على النفس. وقد حسمت المقاومة الأمر، فردّت على ورثة هذا الكريه إنها صفقة الكلّ مقابل الكلّ، وبعد وقف العدوان، ولا كلام آخر... لا شيءَ لدى إسرائيل غير الانتقام الأعمى والإجرام المشهوديْن، ولا شيء لدى الفلسطينيين غير الصمود والبقاء، وغير المقاومة. وكما تلك الرصاصات في "حياة ريجنسي" في القدس غير مسبوقة، لمّا جندلت رحبعام زئيفي، فإن عمليّة طوفان الأقصى غير مسبوقةٍ أيضا.