22 نوفمبر 2024
"ريتّا" تتحدث عن محمود درويش
أن تُستضاف الإسرائيلية، تماري بن عامي (72 عاما)، قبل أيام، في ندوةٍ في مركز ثقافي فلسطيني في بلدة مجاورة للناصرة، أمر جذّابٌ لصحافة المنوعات والثقافة والنجوم، أما أبعد من ذلك فيُحسب تزيّدا. هذه المرأة هي تلك الشابّة التي أحبّها محمود درويش، في مطالع عشرينياته، وسمّاها "ريتّا" في قصيدةٍ شهيرة، غنّاها مارسيل خليفة، وذاع مطلعها "بين ريتّا وعيوني بندقية.."، وقد ضمّها الشاعر في ديوانه "آخر الليل" (1967)، ثمّ حضرت اسما مشحونا بمجازٍ شعريّ في قصيدة "ريتّا أحبّيني" في "العصافير تموت في الجليل" (1969). ولمّا كان اسم ريتّا لدى درويش من أخيلته، فإنها بدت في قصيدته المتأخرة "شتاء ريتّا الطويل" في "أحد عشر كوكبا" (1993) غير ذات صلةٍ بذلك الحب البعيد. ومعلومٌ أن الراحل ظلّ ينفي وجود ريتّا امرأة حقيقية، ويُؤثر أن تكون في أفهام قرّائه اسم امرأة متخيّلة (قال مرّة إنه اسم فني). والأرجح أنه كان يستحسن عدم أخذ مسألتها إلى البعد الشخصي الذي يخصّه، غير أنه بقّ البحصة في التسعينيات، وتحدّث عن وجودها، المعلوم لدى عارفين كثيرين بالقصة كلها.
اشتمل ما قالته تماري بن عامي (أو ريتّا) في الندوة على كثيرٍ من المثير والشائق، وإنْ كانت قد قالت مثله في فيلمٍ أنجزته في 2014 ابتسام مراعنة (سجّل أنا عربي)، ومنه أن نظرات إعجابٍ تبادلها الشابان، درويش وهي، بعد حفلٍ كانت فيه راقصةً في فرقة شعبية، نظّمه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، في حيفا، ثم صار الحب. وقالت تماري إنها تحتفظ برسائل بالعبرية كتبها الشاعر العشريني إليها، وتفكّر بنشرها، وأسهبت بكلامٍ عنه بالغ الحميمية والإعجاب، ثم لم تأتِ على أسباب انتهاء صلة الحب، أو أن التقرير الإخباري (القدس العربي، 31/3/2018) عن الندوة لم يرد فيه أن الإسرائيلية السبعينية جاءت على هذا الأمر، وآثرت أمام مستمعيها قراءةَ قصيدةٍ للشاعر تراها "بيانا إنسانيا عالميا". وفي تقدير صاحب هذه الكلمات إن أهم ما في التقرير أن "ريتّا" لم تستحسن قراءة تلميذاتٍ فلسطينياتٍ بعد الندوة قصيدة "عابرون في كلام عابر"، بل وقالت، من عنديّاتها، إن درويش "كتب هذه القصيدة في لحظة غضبٍ، ولو قيّض له لاحقا لعدّلها على الأقل".
هنا بالضبط الجوهري العميق في المسألة الوطنية والثقافية الفلسطينية، فتماري بن عامي، اليهودية من أم بولندية وأب روسي، والمقيمة غالبا في برلين، التحقت بالجيش الإسرائيلي، عشية حرب 1967، وأصبحت جنديةً فيه. أي أنها آثرت إسرائيليتها على أي اعتبار، حبا مع شاب فلسطيني شاعر، أو أي أمر آخر. وبعد أزيد من خمسين عاما على فعلتها تلك، لا يُرضيها أن تُنشد تلميذاتٌ فلسطينياتٌ عباراتٍ لهذا الشاعر يطلب فيها من المحتلين أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا. قال درويش لصديقه عباس بيضون، في حوار منشور في 1995: تصوّر أن صديقتك جنديةٌ تعتقل بنات شعبك في نابلس أو في القدس، ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضا. وقال أيضا إن حرب 1967 أنهت ذلك الحب. .. والظاهر أنه كان حبا قويا، واستمر نحو خمس سنوات.
كتبتُ في "العربي الجديد" مرة إن إسحق شامير ليس وحده الذي هاج وماج بسبب "عابرون في كلام عابر" في الكنيست في 1988، وإنما "أجمع الإسرائيليون، يمينُهم ويسارهم، عامّتهم ونخبتهم، على استفظاعها". وهذه المحبوبة العتيقة "ريتّا" تؤكد أخيرا زعمي هذا، بل إنها "ترجّح" أن درويش كان سيعدّل في قصيدته تلك، الأمر الذي لم يفعله أبدا، ما يلتقي مع زعم الوزير الإسرائيلي السابق، يوسي ساريد، في استضافته (أيضا!) في حفل افتتاح مؤسسة محمود درويش في كفر ياسيف في 2010، إن الشاعر الراحل أبلغه "ندمه" على "عابرون ..". بل إن كتّابا عربا افترضوا "تبرؤ" درويش منها، بدعوى أنه لم يضمّها في أيٍّ من مجموعاته الشعرية، وغاب عن هؤلاء أن صاحبها ظل يعتبرها نصا غاضبا، وليست قصيدةً، بدليل أنه جعلها في كتاب اشتمل على مقالاتٍ مختارة له، حمل العنوان نفسه "عابرون في كلام عابر" (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1991).
قضية فلسطين عويصةٌ جدا، وما قالته "ريتّا" في ضيافةٍ فلسطينية، بعد خمسين عاما على مشاركتها في حرب احتلال ثانية لفلسطين، عقب حب محمود درويش لها، شاهدٌ جديدٌ على ذلك.