زاهر الغافري بين الشّعر والترحال
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
فجأة، وفي ما يشبه عودة عكسية، قرّر الشاعر العُماني، زاهر الغافري، أن يشدّ الرحال إلى السّويد. شحنَ كل محتويات بيته في مسقط، وتركها تسبح في المحيط، وسبقها، محلّقا في الأجواء، إلى وجهته في شمال القارة العجوز.. لم نره بعد ذلك إلا في الصور وهو في السويد، بملابسه نفسها، ذات الألوان البديعة، وبحالته النفسية التي يحرص على أن تكون في قمّة ألقها وصفائها. وكأنّ الفرق بسيط جدا بين هنا وهناك، وكأنّ الوطن بالنسبة إلى الشاعر هو العالم بأسره، وليس محيطا جغرافيا خاضعا لإحداثيات وشروط؛ وما ذلك غريب عن شاعرٍ يقال إنّه خرج إلى الحياة في الهواء الطلق، إذ حضر والدتَه المخاض وهي تستريح في أرجوحة.. فاعتاد، منذ ولادته، الترحال في أرض الله الواسعة.
هناك من يفسّر الشعر الجاهلي بأنه شعرُ تنقّل وحنين إلى ربوع ومنازلَ، لذلك كان طبيعيا أن يندثر (في غياب الشرط الموضوعي لبقائه)، ويصبح استمرار اجتراره مثارَ سخريةٍ من أبي تمام وأبي نواس، بعد أن صارت للعرب "مدينة منورة". واتّخذ التنقّل طابعا جماعيا وحضاريا، أكثر منه فرديا ترحاليا، سواء بالمعنى الأنطولوجي أو الرمزي، أو حتى اللغوي للكلمة؛ فالمنازل، مثلا، سُمّيت كذلك لأنّ المرء ينزل فيها بعد ترحال، والربوع لأنه يقيم فيها وقت الرّبيع.
وفي ما يتعلق بحياة زاهر في مسقط. كان بيته أشبه بالخيمة الحاتمية، حيث يزوره الأصدقاء في أي وقت وبدون مواعيد. ولأنه بيتٌ فسيحٌ ويضمّ غرفا عديدة، فإن الزائر يجد فيه دائما غرفة شاغرة، كأنما أُعدّت خصيصا له، ويمكنه أن يمكُث من الأيام ما شاء، كما يحدُث مع أصدقاء يفدون إليه من الأردن والعراق ولبنان؛ ناهيك عن أصدقائه العُمانيين، من كتاب ومثقفين وفنانين. يشبه صالونا أدبيا تزيّن أرجاءَه اللوحات، وتصدح في محيطه الأنغام والأغاني، خصوصا العراقية القديمة. وكأنما استخلص زاهر، من تجربته الطويلة في الترحال والتنقل، حياة مختصرة، بما أنه في عُمان ليس دارجا أن يقضي الأصدقاء في بيوتهم وقتا مسترسلا للحديث والسمر، كما في البحرين أو لبنان مثلا وغيرهما من بلدان وعواصم. لم يرضخ الغافري لتقاليد المجتمع العُماني، بل أوجد مجتمعه الصغير الذي يحبّ، ليعيش أجواءه التي يمكن أن تذكّر بحياة المنافي. لذلك كان المثقفون يلتمسون عنده هذه الحميمية المفقودة.
يطرح تنقّل زاهر، بعد أن شارف على عمر السبعين، سؤال الوطن بالنسبة إلى المبدع، خصوصا أن زاهر كان يعيش في وطنه عُمان حريته كاملة، وبالطريقة التي يريد، وهو يلتقط صورَه من بحر عُمان، رافعا كأسا مترعا كُميتيَ اللون، كما يصفه المتنبي في بيته الشّهير "إذا أردت كميت اللون صافية وجدتها/ وحبيب القلب مفقود".. أن يترك الشاعر ذكرياته في مكان، ويذهب إلى مكان آخر، وكأنّ الشاعر هو عهدة الفضاء بمعناه الواسع، وكأنّ الحياة بالنسبة للشاعر سلسلة إقامات في أماكن مختلفة، يتنقل بدون أي ملحمية أو نُواحٍ على الوطن وبكاءٍ على "منازله" و"ربوعه"، حيث كان يردّد في صفحته في "فيسبوك" أن وطنه البحر، ما يشي بأنه ارتبط بالمكان، وليس بالأواصر الاجتماعية، كما عادة الشعراء وهم يتمرّدون على النظام الاجتماعي بطريقتهم. وزاهر حينما خرج من وطنه عُمان افتقده ناسٌ كثيرون، لأنّ بيته فيها كان مزارا ثقافيا، ومائدة زاخرة للحديث والتفكّه، وحيث "البروشيت" الأنيق الذي يتفنن فيه، بين شرق وغرب، إذ عُرف عنه كذلك أنه طبّاخ ماهر، استفاد من ثقافة المطابخ في مناطق العالم التي عاش فيها، قبل أن يعود إلى وطنه الأصلي الذي انطلق منه، ويعمل أكثر من عقد ونصف. وقد استطاع، خلال إقامته السابقة في السويد، أن يثبّت فيها موطئ قدم يمكّنه من العودة إليها في أي وقت شاء. وهكذا، حين عاد إليها، لم يجد أدنى صعوبةٍ في ذلك؛ كما لم يقيده العمر ولا اعتلال الصحة، ففي العادة، وبعد سفر طويل، يعود الإنسان إلى بلاده ومنبته الأول، ليعيش سنوات هادئة مُطمئنّة إلى المكان، ولكن زاهر، وهو المشاكس دائما في الحياة والشعر، لم ينصعْ لهذه المعادلة البشرية، واختار معادلته الخاصة التي هي قرينة الشعر، وعاد إلى السفر من جديد..
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية