سباق البطة العرجاء
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
كانت الأسابيع القليلة الفائتة حافلة بالأحداث في الولايات المتحدة، أهمها انتخابات الكونغرس النصفية وترشيح الرئيس السابق دونالد ترامب نفسه لانتخابات 2024 الرئاسية وتعيين المدّعي العام الأميركي مدّعياً خاصّاً للتحقيق (ثانية؟) في فضيحة نقل الرئيس ترامب وثائق حكومية سرية إلى منتجعه الخاص في فلوريدا ودوره في أحداث 6 يناير/ كانون الثاني 2021.
كانت نتيجة الانتخابات صاعقة للمتابعين السياسيين في الولايات المتحدة من كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، ومن الأكاديميين والمحلّلين السياسيين. لكنّ صدمة الجمهوريين كانت أكبر، ففي أميركا، كان الإعلام بشكل عام يتوقع "موجة حمراء"، تعيد الجمهوريين إلى مجلسي الكونغرس. ومع ذلك، منذ مساء الثلاثاء 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، تبين أن هذه الموجة لم تهدر. وبعد أيام قليلة، أكّد الديمقراطيون سيطرتهم على مجلس الشيوخ، كما توقع كاتب هذه السطور في مقال سابق "انتخابات الثلاثاء في أميركا: رجم الغيب" في "العربي الجديد" (6/11/2022). أما السيطرة على مجلس النوّاب فآلت إلى الجمهوريين، ولكن بأغلبية ضئيلة جدا.
توقّعت في المقال السابق أن الجمهوريين لن يحقّقوا مكسبا كاسحا في الانتخابات، بل المرجّح أن يحصلوا على أغلبية صغيرة في مجلس النواب، بينما لا يزال أمل الديمقراطيين كبيراً في الحفاظ على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ، ما سيجعل السنتين المقبلتين مثيرتين للمراقب السياسي، ولكن صعبتين وقاسيتين للمواطن الأميركي، وأيضاً للعالم الذي يتطلّع إلى قيادة أكبر للولايات المتحدة. ولكن لا تزال بضعة أسابيع سيكون للديمقراطيين خلالها السيطرة الكاملة على مجلسي الكونغرس والحكومة. تسمّى هذه الفترة المتبقية من ولاية الكونغرس السابقة "البطّة العرجاء". والسبب في هذه التسمية أن الكونغرس نظريا لا يزال صاحب الولاية والسلطة التشريعية حتى نهاية السنة، ولكن النواب يعرفون أيضاً أنّهم سيسلمون القيادة بعد أسابيع للحزب الآخر، وينتقلون إلى مقاعد الأقلية.
الكونغرس نظريا لا يزال صاحب الولاية والسلطة التشريعية حتى نهاية السنة
يعرف السياسي المنتهية ولايته أنه يتمتع بنفوذ أقل مع السياسيين الآخرين بسبب الوقت المحدود المتبقي له في المنصب. ولكن البطة العرجاء، من الناحية القانونية، حرّة في اتخاذ القرارات التي تمارس الصلاحيات المعيارية، ربما مع قليل من الخوف والتبصّر وعدم الرغبة في المغالاة. فما الذي يستطيع الديمقراطيون أن يحققوه في سباقهم مع الوقت وهم يعرجون؟
بداية، ثمّة أمر ملحّ عليهم إنجازه، وهو تمويل الحكومة، فالكونغرس مطالَبٌ بالقيام بذلك خلال الشهر المقبل، للتأكد من أنه لن يكون هنالك إغلاق حكومي. لدى الحكومة تمويل لغاية 16 ديسمبر/ كانون الأول. ولذلك، عليهم التوصل إلى صفقة لتمويل الوكالات الفيدرالية في الفترة المتبقية من السنة المالية. ويعتمد على تمويل الحكومة عشرات مشاريع قوانين الاعتمادات التي تموّل وظائف حكومية مختلفة. وفوق ذلك، يطلب الرئيس جو بايدن أموالا إضافية لمساعدة أوكرانيا وأخرى لتقديم المساعدات الإغاثية لمواجهة كوفيد - 19. ولن تمرّ هاتان المسألتان بسلاسة، فبعد أن كان هنالك في العام الماضي دعم من الحزبين لسياسة بايدن الداعمة لأوكرانيا في دفاعها ضدّ الحرب الروسية، بدأ الجمهوريين يتراجعون عن ذلك بشكل متزايد. وفي ما يخصّ كوفيد - 19، معروف أنّ الجمهوريين ليسوا شديدي الحماس لإنفاق مزيد من الأموال لمكافحته، وسيكون الطريق أمام إدارة بايدن للحصول عليه هذه المرّة أصعب من العام الفائت.
وهناك أيضاً الكرة التي يلعب بها السياسيون الأميركيون بالتناوب: إنها سقف الدَين العام، وهو الحدّ الأقصى الذي يمكن للحكومة أن تقترضه في السنة المقبلة من خلال بيع سندات الخزينة. هذه المسألة غالبا ما تكون نوعا من كرة القدم السياسية، فحين يكون الجمهوريون في الحكم، يستخدمها الديمقراطيون للضغط عليهم، والعكس أيضا صحيح. والحال أن بعض الجمهوريين في مجلس النواب قد أشاروا بالفعل إلى أنهم يعتزمون ممارسة الضغط على البيت الأبيض، وهم يطالبون مقابل الموافقة على رفع سقف الدين ببعض التنازلات.
يعرف السياسي المنتهية ولايته أنه يتمتع بنفوذ أقل مع السياسيين الآخرين بسبب الوقت المحدود المتبقي له في المنصب
وقد سبق لنا رؤية ذلك من قبل، فحين كان الرئيس أوباما في البيت الأبيض وكان الجمهوريون يسيطرون على مجلس النواب، كانت هناك معركة كبرى بشأن مدى تخفيض النفقات الفيدرالية التي يريدونها مقابل زيادة حدّ الاقتراض في البلاد. لذلك، إذا كان الديمقراطيون يريدون تجنّب الدراما، عليهم الإسراع بإنجاز هذا الأمر قبل أن تسلّم رئيسة مجلس النواب الحالية، نانسي بيلوسي، المطرقة لخلفها المفترض، كيفين مكارثي، الذي لا يخفي رغبته في قطع التمويل عن أشياء مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، رغم أنها برامج تحظى بشعبية كبيرة مع ناخبين جمهوريين كثيرين أنفسهم، لأنها تمسّ حياتهم اليومية.
الأمر الثالث الذي نجحت البطّة العرجاء في إنجازه تمرير قانون يشرّع زواج المثليين، إذ لا تستطيع المحكمة العليا، التي سبق لها هذا العام وألغت حقّ الإجهاض للنساء، أن تفعل الشيء نفسه مع زواج المثليين في حال أصبح ذلك قانونا فيدراليا. وعلى عكس سقف الدين وتمويل الحكومة، نال مشروع القانون تأييد 12 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ، صوّتوا إلى جانب الديمقراطيين، ما يجعل القانون قادراً على المرور، إذ يلزم أغلبية 60 عضواً لذلك. ورغم أن القانون لن يجبر الولايات على إقرار زواج المثليين، إلا أن الولايات لا يمكنها عدم الاعتراف بالزواج إذا أجري بشكل قانوني في ولاية أخرى.
وقد يكون أصعب من ذلك محاولة تعديل قانون تصديق الكونغرس على انتخابات الرئاسة. نتذكّر جميعا كيف حاول الرئيس السابق، دونالد ترامب، استغلال بعض نقاط الضعف في القانون الحالي، وطالب بتغيير دور نائب الرئيس في ذلك الوقت، من دور احتفالي إلى دور فعلي يمكنه من خلاله إيقاف التصديق على نتائج الانتخابات في ذلك اليوم. يريد الديمقراطيون اليوم التأكيد على الطابع الاحتفالي للتصديق على الانتخابات، بحيث لا يستطيع أي شخص أن يبدّل في قرار الأميركيين وخيارهم في التصويت الذي أدلوا به. ولن يكون ذلك سهلاً على الجمهوريين، لأنّ موافقتهم تعني إقرارهم ضمنياً بأن ترامب قد حاول بالفعل تزييف إرادة الأميركيين. وفي حال رفضوا ذلك، فقد تتمكّن نائبة الرئيس الحالية، كامالا هاريس، أن تبدل في نتيجة الانتخابات في حال فاز رئيس جمهوري في 2024.
الفترة المقبلة في السياسة الأميركية لن تكون نزهة لأحد، لا للجمهوريين ولا للديمقراطيين، وبالتأكيد ليس للشعب الأميركي
وفوق ذلك، وأهم منه، ستُصدر البطة العرجاء أيضا تقرير اللجنة المختارة التي تحقّق في أحداث 6 يناير/ كانون الثاني 2021 تقريرها بعد طول انتظار. ومن المتوقع أن يكون بمثابة بيان ختامي للجنة وأعمالها، يلقي الضوء على حقيقة ما جرى في محاولة الانقلاب التي قادها ترامب في ذلك اليوم للبقاء في الحكم. ولكن مع تسارع الأيام نحو مطلع العام المقبل، حين قبل انتهاء صلاحية اللجنة، لا يزال الأعضاء يناقشون ما سيحتوي عليه وكيف ستكون هذه النتائج. وثمّة خلاف داخل اللجنة، كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست، بين من يريد التركيز فقط على الدور السلبي للرئيس السابق، وفي مقدمتهم نائبة رئيس اللجنة، ليز تشيني، وبين آخرين يريدون الإضاءة على كلّ النتائج الأخرى.
حال الديمقراطيين إذاً ليست على ما يرام. لكنّ حال الجمهوريين قد تكون أسوأ. بدأ في حزبهم انقسام داخلي بين مؤيّدي ترامب المتعصّبين ومن يحمّلونه مسؤولية الخسارة في الانتخابات يتعمّق. والحال أن ترامب هو من انتقى مرشّحي الحزب الجمهوري من بين أقلّهم كفاءة وأشدّهم غرابة وشذوذا. وكانت النتيجة خسارة صاعقة لمعظم مرشحيه. وحتى مطلع العام، سيتصارع الجناحان في مجلس النوّاب على اختيار رئيس جديد له. ولا يزال المرشّح الأبرز لشغل المنصب كيفن مكارثي، لكنّ انتخابه ليس أكيداً. وبالفعل، أعلن جمهوريون أنّهم سيصوتون ضدّ محاولة مكارثي الحلول في المنصب الثالث من حيث الأهمية في البلاد. ولئن فاز مكارثي بسهولة بترشيح المؤتمر الجمهوري، فإن عليه الآن أن يحصد أصوات الجمهوريين جميعا في المجلس. وبسبب الأغلبية الضئيلة للجمهوريين (أربعة مقاعد فقط)، فإنّه لا يستطيع في الحقيقة أن يخسر أكثر من ثلاثة منها، بينما صرّح خمسة نوّاب على الأقل إنهم لن يصوّتوا له.
ويمكن القول، باختصار، إنّ الفترة المقبلة في السياسة الأميركية لن تكون نزهة لأحد، لا للجمهوريين ولا للديمقراطيين، وبالتأكيد ليس للشعب الأميركي.
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.