سبتان أسودان والثالث تبييض السجون
إذا كان التاريخ يُخبرنا عن سنة السبي البابلي الأول، في عهد الملك الكلداني نبوخذ نصّر، من دون أن يشير إلى يوم بعينه من أيام الأسبوع جرى فيه ذلك السبي، فإننا سنعتبره يوم سبت بدلالته الرمزية، وإذا كان المؤرّخون قد تحدّثوا باستفاضة عن الهولوكوست في زمن ألمانيا النازية، من غير أن يقولوا لنا ما إذا حدثت بداية المحرقة يوم سبت ما، فإننا سنعتبره على سبيل المجاز يوم سبت كذلك، فيما تحتفظ الذاكرة الغضة بيوميّ سبت تفصل بينهما خمسون سنة، أولهما في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 والثاني في 7 أكتوبر 2023، وكلاهما كانا سبتيْن أسودين مشؤومين متربّعين في فضاء الوعي اليهودي، وبقيا نذيرين ماثلين في هذه الذاكرة المفعمة بأيام سبتٍ حالكة.
ما يهمّنا نحن العرب والفلسطينيين من تلك الأيام السوداء السبتان الأخيران، السادس والسابع من أكتوبر المجيد، حيث شهد الأول منهما أول نصر عسكري عربي كبير، وإن كان نسبياً، انكسرت فيه أنوف المحتلّين المتغطرسين، وأرغموا بنتيجته على الانسحاب من سيناء حتى الشبر الأخير، بينما سُجّل الثاني كأول وأكبر وأثمن انتصار تاريخي حقّقه الفلسطينيون ضد الاحتلال، وسطّروه باقتدارٍ فاق كل التوقعات، وفاض عن حدود القطاع الباسل، بدّل وجه الشرق الأوسط، وربما غيّر التوازنات والحسابات في نطاق أشمل. ومع أن التسمية السادس من أكتوبر كانت بالعبرية "همحدال" أي التقصير، فان السابع منه سمّاه المختلون، حرفياً، "السبت الأسود" بلا زيادة أو نقصان.
والحقّ، أن هذه التسمية تليق بالقوم المصابين بالهلع، ليس بسبب ما وقع في غلاف غزّة فحسب، وإنما أيضاً بفعل تداعيات حرب الساعات الستّ من صباح 7 أكتوبر، وارتدادات هذا الزلزال على طول المسافة الممتدة من قطاع غزّة إلى أعالي الجليل، ولا سيما أنها أول حرب تجري داخل القلعة الحصينة لا خارج أسوارها، وعلى أيدي جيل من الأحفاد، الذين قاتلوا ويقاتلون بشجاعة وكفاءة أفضل مما قاتل به جيل الآباء والأجداد، أثاروا القلق الوجودي بشدّة، بثّوا الأسئلة غير النائمة عن المصير النهائي، أسقطوا الستار الحديدي، وأيقظوا الهواجس المرعبة لدى المُصابين بلعنة الثمانين.
ولعل الحرب الانتقامية الموغلة في وحشيتها، الجارية منذ نحو شهرين، ضد الأطفال والنساء في القطاع المحاصر، الدليل بعينه على استفحال حالة الذعر المستحكمة بالعقل الإسرائيلي منذ ذلك السبت الأسود بحقّ وحقيقةٍ تامتين، والقرينة التي لا يرقى إليها الشك، على أن دولة آخر احتلال على وجه الأرض قد فقدت العقل السليم، ولا سيما وهي تحاول بيأس وانعدام بصيرة، استعادة صورتها النمطية السابقة دولة مهابة في الجوار العربي، واسترداد قوة ردعها المحطّمة في غلاف غزّة، وفوق ذلك كله حماية مشروعها الاستعماري من الزوال التدريجي، بعد ضرب مقوّماته الثلاثة الرئيسة، الاستيطان والهجرة والأمن، بضربة فنية قاتلة سددها المقاومون صباح ذلك السبت.
ومع أن المشاهد المأساوية المنقولة من قطاع غزّة، المليئة بصور أشلاء الأطفال والنساء في العمائر المقصوفة وتحت تلال الدمار، تُقطّع نياط القلب وتُثقل على الضمائر في كل مكان، بما في ذلك الضمائر في أوروبا والأميركيتين، إلا أن مشاهد القتال من مسافة صفر، الصمود الأسطوري، في المقابل، وما تصنعه المقاومة من بطولاتٍ ترقى إلى مشارف المعجزات، تؤكّد المؤكد من جديد، وتدعو إلى الثقة بلا حدود، أن الفشل الذي لم تشبع منه دولة الاحتلال على مدى 50 يوما، وهي عمر الجولة الأولى من الحرب، لا يزال متربّصاً بالغزاة داخل كل شارع ضيّق، خلف كل نافذة، وراء كل كومة من الركام، ناهيك عن الأنفاق والأشباح والرجال الرجال.
صحيح أن الخسائر البشرية ثقيلة على النفس، والخذلان العربي على أشده كالعادة، والجنون الإسرائيلي لم يبلغ مداه بعد، إلا أن النتيجة النهائية لهذه المواجهة الكبرى تلوح في الأفق القريب، نتيجة حتمية لكل صراع مع حركة مقاومة، حيث كلما طال أمد الحرب لدى جيش يخشى الحروب الطويلة، فقد صبره ورشده، تعمّق مأزقه أكثر، وتلاشت قدرته على تحمّل مزيد من الخسائر، وتعمّقت عزلته الدولية، ونشبت الخلافات الداخلية بين قادته بصورة علنية، الأمر الذي يقترب معه الفجر أكثر، ويلوح فيه صبح يوم السبت الثالث، سبت تبييض السجون أوضح، ولا سيما أن هدف تحرير الأسرى الفلسطينيين يقع، بين أهداف أخرى، موقع القلب بلا جدال، من جانب قادة سبق لهم أن كابدوا في المعتقلات مديداً، وأيقنوا أن حرية الإخوة والرفاق لن تتحقّق إلا بالمبادلة، وها قد سنحت، الكلّ مقابل الكلّ.